التكييف النقدي monetary adjustment في العراق:
أوراق في السياسة النقدية رؤى وآفاق في السياسة النقدية
د.مظهر محمد صالح نائب المحافظ السابق
التكييف النقدي monetary adjustment في العراق
في أوضاع الركود الاقتصادي الراهن
التي تؤشر على
توافر بطالة بمرتبتين عشريتين
وأسعار هابطة عند المستوى الصفري،
تؤازرها مؤشرات عجز ثنائي dual deficit
أحدهما داخلي في الموازنة العامة
والآخر خارجي في الحساب الجاري لميزان المدفوعات،
فإن الجدالات بين معشر الاقتصاديين تميل الى تبني شيء من التكييف النقدي يعمل على تصحيح سعر الصرف
وعلى وفق آلية تعويم مؤقتة تساعد على التصحيح المستهدف والدفاع عن معدلات صرف مستقرة بمستويات أخرى.
وبهذا يأتي تعديل سعر الصرف وبدرجات منضبطة للتصدي لاختلال موازنتين أساسيتين في الاقتصاد الكلي:
الأولى،
تصحیح الحساب الجاري لميزان المدفوعات وبلوغ نقطة قريبة من التوازن بين التدفقات الداخلة والتدفقات الخارجة.
والثانية،
توفير رافعة مالية leverage لتمويل عجز الموازنة بفروقات تصحيح سعر صرف الدينار الى الدولار
وذلك لسد العجز في الموازنة العامة كلا أو جزءا وبريع أخر مصدره بواقي سعر الصرف المصحح نفسه،
وغد تلك الفروقات بمثابة إيراد نهائي للخزينة.
إن مثل هذه الإيرادات هي بمثابة ضريبة تضخمية في الأحوال كافة inflation tax
أموالها اصدارة نقدية صافية يتناسب وخفض سعر الصرف.
وإن الإنفاق الناجم عن تحصیل موارد مثل هذه الضريبة التضخمية
(بصورة فائضات نقدية ريعية ولدها سعر الصرف الجديد)
لا تخلو من عوامل تضخمية كامنة في سوق مولدة للتوقعات تقود الى تقلبات سعرية مستمرة.
ولكنها قد تحرك في الوقت نفسه
بعض أوجه نشاطات المالية العامة والاقتصاد الكلي الحقيقي الى حد ما.
فأداة تعديل سعر الصرف باتجاه الخفض ستحقق وبلا شك اصدارة مضافة جراء توليد كميات نقدية جديدة
يؤشرها النمو في درجة الأساس النقدي المعد للاستعمال في الموازنة العمومية للبنك المركزي
ومصدره يسمى بضريبة التضخم الذي سيفرض كلفة على الأسعار من السلع والخدمات والمنافع المستوردة كافة
دون توافر مدخل محلي في إنتاجها،
اذ اضحى الاقتصاد الريعي الراهن للعراق
في ظل تدهور الحساب الجاري لميزان المدفوعات نسبة الى الناتج المحلي الإجمالي و بمرتبتين عشريتين
في وضع لن يتحمل أسعار صرف ثابتة بمستوى مرتفع أو قيمة مرتفعة للدينار
من خلال سعر صرف لا يتناسب والوضع الاقتصادي الحالي.
فثبات سعر الصرف
يعني التعاطي
مع قيم وثوابت ومتغيرات الاقتصاد الكلي في فترة الانتعاش الاقتصادي الماضية
وبشكل بات متفوقا
على قيم وثوابت ومتغيرات الوضع الاقتصادي الحالي المنكمش أو الهابط.
فالاستمرار بالتعاطي مع القيم النقدية المرتفعة الثابتة
والتي تولدت ارصدتها وتراكمت احتياطياتها في ازمنة الرخاء الاقتصادي الريعي
السابق لحرب الأسعار في السوق النفطية الدولية
أصبحت خارج ثوابت ومتغيرات الأسس الاقتصادية المنطقية في التوازن
out of the fundamentals
إذ يجري التعاطي حاليا مع الكتلة النقدية
بسياقات فترة ريعية مستقرة النمو في عوائد النفط قامت على تغطية
جاء بها متوسط عائد برميل نفط
كان معدله التاريخي في تطور الحساب الجاري لميزان المدفوعات
بما لا يقل عن 80 دولار.
فالاستمرار في تسيير القطاع النقدي في ظل اتساع العجز في الحساب الجاري
سيتسبب بلا شك بكلفة كبيرة على البنك المركزي نفسه
وتفقده تدريجية احتياطيات غالية الثمن و بدينار ثابت
هو من نتاج نمو تراکم احتياطيات أجنبية نمطية modularity أو ماضوية مرتفعة الفائض نسبية
مقارنة بنمو متناقص في تراكم الاحتياطيات الأجنبية نفسها حاليا
ذلك طبقا لمؤشرات العجز الفعلي في الاقتصاد الكلي الداخلية والخارجية.
وعلى الرغم مما تقدم،
وفي ضوء رصيد الاحتياطيات الأجنبية الجيدة حاليا،
فثمة اتجاه لتبني التكييف النقدي مع ميول آنية تتمثل بتدني الرغبة في الاقتراض الحكومي
وتوسيع الدين العام
ولاسيما الدين العام الداخلي التمويل العجز بالموازنة العامة
الذي بلغ قرابة 45 مليار دولار،
ويمثل مرة ونصف الدين الخارجي المتفق على تسديده حاليا.
اي آن تردد المالية العامة وخشيتها من توسيع ظاهرة الدين العام
وتجنب الاقتراض على نطاق واسع من السوق المالية الداخلية
(إي التردد في تبني آليات الاقتراض التي حصلت في الأعوام ۲۰۱۵-۲۰۱۷ نفسها
سيولد الرغبة العالية لدى السياسة المالية في قبول التكييف النقدي وتوليد ضريبة التضخم
كبديل رئيس عن الاقتراض الواسع بحوالات الخزينة وتعاظم الدين العام.
فطالما ستحصل السلطة المالية على تمويل إضافي بدينار أوفر
جراء سياسة التكييف النقدي لتمويل العجز المالي الحكومي
واظهار المالية العامة استعدادها قبول كلفة فروقات المعاملات الخارجية الحكومية
التي سترتفع بانخفاض سعر الصرف،
فنرى أن ضريبة التضخم الجزئي (جراء تخفيض سعر الصرف)
التي ستحصل المالية العامة على منفعتها (بتعديل القيمة الخارجية للدينار)
ستأتي كبديل عن كلفة الاقتراض الداخلي الواسع التي جرت في السنوات السابقة
بسعر صرف ثابت مرتفع الثمن.
وفي الأحوال كافة سيتسبب الاقتراض بانعدام التكييف النقدي
والركون الى ظاهرة اتساع نمو الأساس النقدي
لقاء التمويل بالإصدار النقدي الإضافي وبكتلة نقدية مضافة مرتفعة القيمة الاسمية
ستكون على حساب احتياطيات اجنبية تراكمت من الدولار النفطي في مدد انتعاش وفائض اقتصادي سابق
وهذا يعد في الوقت الحاضر خيار ثاني second best
بالرغم مما تقدم،
فمثل هكذا توجهات محتملة يمكن اعتمادها من السلطة النقدية
قد تتم بعد أن تتعرف السياسة النقدية بنفسها
وبحوكمة عالية وبشكل دقيق
عن نوايا وتوجهات السياسة المالية
لسنة مالية قادمة شديدة الانضباط من دون تقلب،
حتى يتاح لصناع السياسة النقدية
إجراء تعديل منضبط وتدريجي على معدلات الصرف يتناسب وتقييم الاحتياطيات الخارجية
واستقرار السوق وخلوها من التوقعات السعرية المؤذية.
وإذا ما سمح للمالية العامة الاقتراض من السوق النقدية على غرار التجربة السابقة،
فسيتم الاقتراض بنطاق شديد التوازن والتعويض ويتناسق مع التكييف النقدي ويتكامل معه
دون تضارب في الآليات
وبدراسة مستفيضة يقررها البنك المركزي نفسه وليس غيره
في اجراء التوازن المطلوب.
إي بين التمويل التضخمي من خلال تعديل سعر الصرف كتكييف نقدي
أو من خلال قبول الاقتراض بحوالات الخزينة وتسيلها
كأدوات دين في عمليات السوق الثانوية لممارسة التيسير الكمي QE
أو كلاهما (التكييف السعري والكمي معا)
وبنسب مدروسة ولكل وسيلة تمويل سيكون هناك وزن معين
وعلى وفق الخيارين الآتيين:
الخيار الكمي
ويتم باتباع سياسات تمويل للموازنة العامة عن طريق التمويل من خلال التيسير الكمي، كما ذكرنا،
الذي تؤشره عوامل النمو في الأساس النقدي بالأصول المحلية
وهي بمثابة إجراءات استباقية leads
تؤدي في آثارها الإنفاقية إلى تطور المناسيب النقدية المحلية ونموها
لقاء هبوط النمو في الاحتياطي الأجنبي للبنك المركزي
بسبب الطلب الإضافي أو الفائض على العملة الأجنبية عبر آليات سوق الصرف
السوق المستقرة بالأسعار الثابتة التي تلازم الفجوتين الداخلية والخارجية
مع اضطرار البنك المركزي الى التدخل لفرض حالة الاستقرار المستمر بسعر الصرف.
إي بممارسة عمليات التعقيم على مناسيب السيولة والسيطرة عليها كقوة شرائية فائضة بالتدريج
ولكنها ستنتهي بتباطؤات lags تتسم باضطرابات سعرية في سوق الصرف مع انخفاض الاحتياطيات.
وقد تنتهي مسببة ميكانيكية اضطرارية من التكييف النقدي (أي تعديل سعر صرف)
بسبب هشاشة الاحتياطيات الأجنبية بمرور الوقت.
إن مثل هذه الهشاشة في الاحتياطيات
تتولد جراء استمرار عجز الحساب الجاري لميزان المدفوعات نسبة الى الناتج المحلي الإجمالي
الذي تقدره الأوساط المالية الدولية مثل مؤسسة Fitch للتصنيف الائتماني في العام ۲۰۲۰
هي بنحو سالب 16% وتنخفض في العام ۲۰۲۱ الى سالب 6٪.
الخيار السعري
ويبتدأ هذا الخيار بسياسات سعرية
قوامها خفض القيمة الخارجية للعملة كإجراء استباقي lead
وتوفير فوائض مالية في الموازنة العامة تسجل إيراد نهائي قابل للإنفاق
لتترك آثارها التضخمية كتباطوءات lags
جراء انفاق الفائض في تمويل العجز بهذه الضريبة التضخمية
من خلال اتساع فروقات سعر الصرف بين مستويين
اذ سيتوجه الإنفاق الإضافي الممول للعجز
ليكون بصورة ارصدة معدة للصرف على السلع والخدمات والمنافع الأجنبية.
وبهذا سيرتفع الطلب على العملة الأجنبية
بمعدلات ترتبط بمقدار التوقعات التضخمية وتقلب استقرار دالة الطلب النقدي.
وبالرغم من ذلك سيتوقف الأمر وفي الأحوال كافة
على نمو الاحتياطات الأجنبية وتركيبها في محفظة استثمار البنك المركزي.
فإذا كان النمو في الطلب على العملة الأجنبية على سبيل المثال يفوق نمو الاحتياطيات الأجنبية نفسها،
فإن ذلك يعني
أن ثمة توقعات تضخمية تقود لامحالة إلى مسلسل من التخفيضات المستمرة في سعر الصرف
عبر مراحل تباطؤ متأخرة lags
وحصول العكس،
فقد تبلغ السوق النقدية حالة التوازن والاستقرار
لاسيما عند تعادل النمو في كفتي العرض والطلب على العملة الأجنبية.
وهنا يتوقف استقرار سعر الصرف (بكونه مثبت اسمي للتوقعات التضخمية)
على درجة توازن الحساب الجاري لميزان المدفوعات
أو قدرته في تحقيق فائض يزيد على %5-4 في ذلك الحساب نسبة الى الناتج المحلي الإجمالي.
وعندها سيرتفع سعر صرف الدينار العراقي وتتعاظم قوته الشرائية مجددة.
وربما نجد في التكييف النقدي امكانية أن تتولى نافذة التدخل في البنك المركزي
بالتعاطي والابتياع بدولار سيكون أغلى ثمنا بالنسبة للدينار من مستوى سابق
أو بدرجة تعقيم اعلى في مناسيب السيولة،
مما سيؤول الى استقرار السوق النقدية
ولكن بأسعار صرف مرشقة جديدة تتلائم مع وضعي التوازن الداخلي والخارجي،
ذلك طالما أن الاحتياطيات الأجنبية تبدأ بشي من الاستقرار في كفايتها ووفرتها النسبية.
وأخيرا،
لابد من أن ندرك
أن أوضاع التكييف المالي fiscal adjustment (إي تعظيم الإيرادات غير النفطية)،
ونقصد الضرائب الفعلية real taxes أمست قضية غائمة في المالية العامة العراقية
وأن فرضها قد يسبب منحدرا ماليا fiscal cliff خطيرا في استدامة الركود،
فإن الوهم النقدي money illusion بالدينار الاسمي
على الرغم من ضريبة التضخم inflation tax
وعلى وفق الخيار النقدي
ستضفي استقرارا في الكثير من المعاملات التعاقدية الداخلية
وستبقى على شكليات التعاقدات الاسمية بالدينار
كالديون والإيجارات والرواتب والأجور وغيرها دون تغيير
طالما هي مقومة بأسعار تعاقدية
وعد ذلك تفضيل أول first best
(*) باحث وكاتب اقتصادي ومستشار مالي للحكومة العراقية
حقوق النشر محفوظة لـ شبكة الاقتصاديين العراقيين.
يسمح بإعادة النشر بشرط الإشارة إلى المصدر. 19 نیسان 2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق