السبت، 16 يناير 2021

مستجدات المالية العامة في العراق: من التقشف(الثنائي )الى العجز (الثنائي )

 

مظهر محمد صالح

مستجدات المالية العامة في العراق: 

من التقشف (الثنائي )الى العجز (الثنائي )

مظهر محمد صالح

الحوار المتمدن-العدد: 6777 - 2021 / 1 / 3 - 23:23

  

قادت الأوضاع المالية الانكماشية في العراق الى مظاهر اقتصادية خطيرة .

اذ جاء في انكماش الطلب او الانفاق الحكومي في العام ٢٠٢٠ 

الى تعاظم فجوة الدخل الوطني وانخفاض النمو بنحو ١١٪؜ عن معدلاته ،

اذ رافقه تعاظم في مستويات البطالة لم يقل عن ٢٥٪؜ من قوة العمل العراقية 

فضلاً عن تزايد معدلات الفقر بين السكان التي تعدت ٣٠٪؜ من أسر البلاد. 


في وقت يرى فيه دعاة الفكر المالي

 ان مظاهر الانكماش والتعثر المالي واللجوء الى التقشف (الشبه الإجباري ) 

سيظل مدعاة لتعاظم الدين والعجز في حزمة انقاذية مالية توسعية

تتطلبها السنوات المالية اللاحقة . 


وهذا ما واجهته المالية العامة العراقية في السنتين ٢٠٢٠-٢٠٢١

اذ يؤشر مشروع الموازنة العامة الاتحادية للعام ٢٠٢١ 

بان اجمالي العجز المخطط فيها 

سيرتفع الى قرابة ٧١ تريليون دينار

 وسيشكل العجز المذكور نسبة لا تقل عن ٤٢٪؜ من اجمالي الانفاق الكلي فيها 

ونسبة لا تقل عن ٢٨٪؜ من الناتج المحلي الإجمالي الراهن.

وتأتي هذه النسب المرتفعة في العجز 

بمثابة ارتدادات عكسية لانكماش الطلب الإجمالي وتقشف الاقتصاد الكلي بمجمله 

مؤدياً الى تدهور كبير في فرص التشغيل 

بعد ان عصفت البطالة الفعلية بالاقتصاد العراقي في العام ٢٠٢٠ 

وفي ظل الأزمتين الصحية والمالية اللتين تلازمتا في تقييد فرص النمو في الاقتصاد الوطني 

بعد حرب أسعار النفط وتحديد الكميات المصدرة من النفط العراقي بموجب اتفاق (أوبك +)

وخسارة العراق لقرابة نصف عوائد نفطه في العام الماضي ،

 فضلا عن انغلاق الاقتصاد الوطني تبعاً للانغلاق الحاصل في الاقتصاد العالمي وركوده .

وإزاء الانكماش في المستوى العام للأسعار في العراق 

وبلوغ التضخم نسبة تلامس (الصفر بالمئة بالغالب zero inflation )

 فإن ارتفاعا هائلاً قد حصل في معدلات الفائدة الحقيقية 

ساهمت بإيجاد ما يسمى بفخ السيولة liquidity trap 

وانكماش التصرفات النقدية بشكل واسع 

عبر تحول سلوك دالة الطلب النقدي وانتقالها الى منطقة الانكماش الاقتصادي .

اذ لم يستطع القطاع الخاص الذي استحوذ على قرابة ٩٠٪؜ من سيولة الاقتصاد 

من تحريك روافع الطلب وتعظيم الانفاق النقدي 

واحداث شي من النمو في الناتج المحلي الإجمالي 

بالإنابة عن انكماش الإنفاق الحكومي في العام ٢٠٢٠ .


وهنا يأتي دعاة الفكر المالي الحديث أمثال Alesina وزملائه 

في كتابهم الشهير الموسوم /

التقشف :متى يعمل ومتى لا يعمل ؟

‏Alesina, Alberto; Favero, Carlo; Giavazzi, Francesco (2019).

 Austerity: When It Works and When It Doesn't.

 Princeton University Press. p. 5.



اذ يلحظ من الفكر النظري للاتجاه المدرسي المالي اعلاه ،

ان التقشف الراهن في الاقتصاد العراقي

 وبسبب التوقعات الانكماشية واثارها النقدية كما نوهنا،

أدت الى حدوث تقشف مزدوج dual austerity

تمثل بتعطيل دوافع الطلب الكلي كافة وبلوغها الحدود الدنيا.

y=c+i+g+(x-m)

كما انعكس على سلوك المدخرين 

s=y-c

ولاسيما من أصحاب الثروات المالية او المدخرات العالية .

فالانفاق على فرص الاستثمار الحقيقي واحداث نمو موجب في الدخل الوطني

 وضعف التشغيل او الاستخدام 

جاء بسبب ثقل او ارتفاع القيمة الداخلية للدينار العراقي وتعاظم قوته الشرائية .

اذ تاثر غالبية المدخرين بظاهرة مدرسية ( كنزية ) 

سميت منذ ثلاثينيات القرن الماضي

 بمفارقة الازدهار (مفارقة الادخار):Paradox of thrift

وهي سلوك يجعل قوى الفائض او المدخرين في الاقتصاد 

يمتنعون عن الإنفاق الاستثماري طالما يتنعمون بالآثار النقدية الموجبة للثروة 

جراء الانكماش المرتفع في الاقتصاد الكلي وهبوط المستوى العام للأسعار في الأجل القصير ،

ولكن بالتأكيد

سيتم ذلك الانكماش على حساب استمرار تعثر النمو في نشاط الإنفاق الاستثماري الحقيقي 

والذي يعد مصدرا لازدهار الدخل والثروة الحقيقيتين في الأجل الطويل .

اي التضحية بمستقبل الثروة من أجل حاضرها الاسمي او النقدي (المزدهر ) في الأجل القصير 

وعلى حساب تآكلها في الأجل الطويل .


اللافت في مشروع الموازنة العامة الاتحادية للعام ٢٠٢١

 التي بلغ سقفها الانفاقي بنحو ١٦٤ تريليون دينار 

قد حددت عجزها البالغ ٧١ تريليون دينار كما نوهنا سلفاً ،

واقامته على محورين مركزيين غير مرئيين

 من أشكال العجز المزدوج dual deficit 

لياتي كرد فعل للتقشف المزدوج dual austerity

مركب العجز( الاول )في الموازنة

وهو العجز الفعلي actual deficit او الصريح explicit 

والذي قدرته الموازنة العامة ٢٠٢١بنحو ٤٨ تريليون دينار ،

اذ سيتم تمويله صراحةً وبصورة مباشرة 

عن طريق خصم حوالات الخزينة لدى البنك المركزي العراقي 

كجزء من عمليات تنقيد الدين debt monetisation 

والتي ستشكل لا محالة نسبة تقرب من ٦٨٪؜ من إجمالي تمويل العجز المذكور

اذ يعد مصدر التمويل لفجوة العجز الفعلي ،

 وباسناد وسائل وأدوات السياسة النقدية لادوات الدين العام، عند مستوى عالي من اليقين ، 

وبذلك ستتغذى الموازنة على إيرادات نقدية سيادية من النقود الخارجية outside money

 التي سيصدرها البنك المركزي العراقي جراء خصم الحوالات 

و بالاستناد على احتياطياته الأجنبية 

وعدها نمطا من أنماط الثروة ، 

ولكن في نهاية المطاف 

سترقد الأصول المحلية في الميزانية العمومية للبنك المركزي العراقي

 ان لم تمت هناك (ان جاز التعبير ) 

وهي تماثل من الناحية الاصطلاحية ملامح نظرية (ميلتون فريدمان )

المسماة: بنقود الطائرة العمودية helicopter money ،

ولاسيما بعد ان تتثاقل محفظة الموجودات 

او الاصول المحلية في الميزانية العمومية للبنك المركزي العراقي 

بحوالات الخزينة المخصومة لديه 

والتي ستتجدد سنويا لامحالةُ بمعدلات فائدة رمزية او تتاكل بالتضخم .

وقد يبلغ متراكم الدين العام الداخلي في محفظة الأصول او الموجودات لدى البنك المركزي 

قرابة ١٠٠ تريليون دينار في نهاية عام ٢٠٢١ ،

وهو ما سوغ في ١٩ كانون الاول ٢٠٢٠ الى التسارع المسبق

 لخفض القيمة الخارجية للدينار العراقي او سعر صرفه سلفا

 لدواعي (تغطية الدينار coverage ) بقيمة 

قد توفر مستقبلاً حالة مقبولة من تناسب التغطية ،

ذلك طبقا لما سيتوفر من احتياطيات أجنبية ساندة ومقدار العجز الفعلي في الموازنة العامة . 

آخذين بالاعتبار 

ان سعر برميل النفط الخام المصدر لأغراض الموازنة العامة الاتحادية ٢٠٢١ 

قد تحدد بنحو ٤٢ دولار للبرميل وبطاقة تصديرية تبلغ ٣،٢٥٠ مليون برميل يومياً 

وان العجز في الحساب الجاري في ميزان المدفوعات 

هو بين (سالب١٦٪؜- سالب٢٠٪) من الناتج المحلي الإجمالي .

اما مركب العجز( الثاني )في الموازنة

 وهو العجز الافتراضي virtual deficit 

البالغ ٣٢٪؜ من اجمالي العجز الكلي وبنحو ٢٢ تريليون دينار ،

 يلحظ أنه العنصر الأشد تحركاً واكثر خطرا risk element في تمويل الموازنة العامة 

ولا يمكن تحسس مصادر التمويل فيه بشكل صريح 

كما هو الحال في العجز الفعلي

 بل يتم التحسس التمويلي ضمناً implicit .

حيث يرتبط التمويل (في عجز الموازنة الافتراضي )

باتجاهين او حالتين من حالات اللايقين uncertainty : 

الحالة الأولى من حالات اللايقين،

ويتمثل بارتباط العجز المذكور أي الافتراضي 

بشكل غير مباشر وأشبه ما بالمحاكاة simulations 

مع تخصيصات الموازنة الاستثمارية 

(والتي غالبا ما أطلق عليها مجازاً بالتكاليف المتغيرة

اي التخصيصات القابلة للتأجيل عند نقص التمويل ). 

وهي في الأحوال كافة 

الخطر الأول في نقص التمويل جراء التقشف الحكومي الإجباري 

المؤدي إلى الانكماش الاقتصادي

وهبوط معدلات النمو في الناتج المحلي الإجمالي وتزايد مستويات البطالة ،

ذلك عندما تصبح سبل تمويل عجز (الموازنة )الافتراضي مستحيلة التحقيق خلال السنة المالية.

والحالة الثانية من حالات اللايقين، 

وهي المراهنة على سعر برميل نفط تفاؤلي عند التصدير 

في تمثيل عوائد الموازنة للعام ٢٠٢١ من الصادرات النفطية 

والذي يقدر ضمناً بنحو ٥٢ دولار للبرميل

 ما يساعد على توفير تمويل تلقائي إضافي

 (وعده ايرادا ريعيا مضافاً الى موارد الموازنة وتدفقاتها النقدية )

وبمبلغ يقارب ٢٢ تريليون دينار

 وهو المبلغ الذي يقارب حصة الموازنة الاستثمارية من مصادر الخزينة تحديداً .

وهنا لابد من ان يساعد التمويل الافتراضي المضاف 

على الإلغاء الفوري في(فجوة العجز الافتراضي البالغة ٣٢٪؜ )

وسد فجوة (التكاليف المتغيرة) لمصلحة الموازنة الاستثمارية

 (التي ستظل نفقاتها مرتبطة بتحسن السوق النفطية وتوقعاتها في العام ٢٠٢١).


ختاما ،

 اجد ان فرضية (العجز الافتراضي) في موازنة العام ٢٠٢١ 

ستقايض (تقشف السوق ) في السنة المالية الانكماشية ٢٠٢٠ للعراق .

وتأتي جدلية العجز الثنائي في السنة ٢٠٢١ 

بمثابة تعويض compensation (للتقشف الثنائي)-الانكماش الثنائي- في السنة المالية السابقة 

واحداث حاضنة نمو وتشغيل إضافية في الاقتصاد الوطني 

لتدارك ظاهرتي الانكماش والركود المتعاقبتين التي تعرض إليها الاقتصاد الوطني 

أثر أزمتين مزدوجتين صحية ومالية في الوقت نفسه .


* البحث منشور على موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين


https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=704557


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق