– نشر في 4/2/2013
كثر الحديث وتكرر عن الثروة النفطية وعوائدها في العراق،
كثر الحديث وتكرر عن الثروة النفطية وعوائدها في العراق،
وخصوصا بعد جولات التراخيص المتعلقة بالاستخراج والاستكشاف النفطي،
وتم التأكيد على ان هذا سيؤدي الى :
1- ان العراق سيكون اول منتج ومصدر للنفط من بين دول الاوبك حيث سيرتفع الانتاج الى حوالي 12 مليون برميل/ يوم.
2- ان العراق سيكون اللاعب الاساس في تحديد اسعار النفط عالميا.
3- ان العراق سيحقق موارد مالية كبيرة تكفي لاسعاد الشعب العراقي حاليا ومستقبليا.
ولم يتم تبيان كيف سيتم ذلك، ولم تكن هناك دراسات متكاملة عن كيف سيكون العراق اول منتج ومصدر؟
وكيف سيقوم بتأمين كل البنى التحتية اللازمة لمثل هذه الارقام والتكلفة المالية لذلك ومصدرها؟
وكيف ان العراق سيكون اللاعب الاساس في تحديد اسعار النفط عالميا، بدون الاخذ بنظر الاعتبار برامج وخطط الدول الاخرى وكل العوامل المؤثرة على سوق الطاقة في العالم?
وهل سيكون لاعبا ايجابيا ام سلبيا؟
والسؤال الاهم كيف سيتم اسعاد الشعب العراقي واجياله المقبلة؟
والاكتفاء بالقول بان العراق سيعمل على برنامج اقل تواضعا، اي الوصول الى معدل انتاج 6 مليون برميل، لان الهدف الاساس من زيادة الانتاج هوالحصول على الموارد المالية ليس الا. وهذا المعدل من الانتاج يكفي لذلك.
وفعلا بدأ مسلسل الانتاج والتصدير والاسعار بالزيادة وارتفعت الموارد النفطية من 22,3 مليار دولار عام 2004 الى 83 مليار دولار عام 2011 والى 94,4 مليار دولار عام 2012.
وارتفعت حصة الفرد العراقي من الناتج المحلي الاجمالي من 2270 دولار عام 2003 الى حوالي 4000 دولار عام 2011 وقد تصل الى 4500- 5000 عام 2012.
كل هذه الارقام تشير الى الزيادة التي حصلت في الايرادات النفطية وفي الناتج المحلي الاجمالي وفي حصة الفرد منها.
وهي ارقام ; تعبر عن بعض مؤشرات الاقتصاد الكلي،
التي يتم الاعتماد عليها لبعض المقارنات الدولية، التي تعبر عن الامكانيات المتوفرة للبلد،
ولا تعكس الواقع الفعلي لتوزيع واعادة توزيع الدخل ومستوى المعيشة للفرد.
وهي ارقام تدل على النمو الذي حصل في هذه المجالات، ولا تعبر عن التنمية الحقيقية للاقتصاد بمكوناته المختلفة او لمستوى المعيشة.
صحيح ان هذا النمو من الممكن ان يكون قاعدة مهمة لتحقيق التنمية، ولكن هل تم الاستفادة من هذه الامكانيات لتحقيق التنمية في العراق؟
ان التنمية في دولة ريعية،
لا يمكن النظر اليها من منظار تحقيق الزيادة في الناتج المحلي الاجمالي، وزيادة حصة الفرد منه، او التخفيف من البطالة،
فكل هذا يمكن تحقيقه في ظل الدولة الريعية نفسها عن طريق زيادة الموارد النفطية، وتوسيع النشاطات الاقتصادية غير الانتاجية، وتضخيم الجهاز الحكومي،
مما يؤدي الى انتشار وتفشي المرض الهولندي في جسد الاقتصاد والادارة الاقتصادية .
وبالتأكيد ان مثل هذه المؤشرات، في دولة متطورة، فيها اقتصاد متطور، وفيها جميع مرتكزات الاعتماد على الذات، ويتم ربطها بالمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية الاخرى، تدلل على مستوى اداء الاقتصاد الكلي وترابطه،
ومع ذلك، تبقى عملية توزيع واعادة توزيع الدخل، هي المشكلة الاساسية التي تواجهها مثل هذه الدول، وهي الاساس في الصراع بين الفئات او الطبقات الاجتماعية المستفيدة والاقل استفادة وغير المستفيدة.
ان عملية التنمية في مفهومنا ( التنمية المستدامة) تعني خلق قاعدة اقتصادية يمكن الارتكاز عليها في تقليل النتائج السلبية على الاقتصاد في حال انخفاض العوائد النفطية.
وهذا يعني استغلال الموارد المتحققة من النفط حاليا في انشاء مثل هذه االقاعدة، من اجل تنويع مصادر دخل الدولة.
مع العلم ان المصدر الوحيد تقريبا لتغطية نفقات الدولة في الوقت الحاضر ، كما يعلم الجميع، هو الايرادات النفطية (حوالي 95-96%).
واذا ما اخذنا بنظر الاعتبار ان الموارد الاخرى ايضا ( الضرائب على الدخل، والرسوم الكمركية، وغيرها من الايرادات، اساسها الموارد النفطية ايضا) فان كل موارد الدولة تقريبا، لتغطية نفقاتها، هي من الموارد النفطية، اذا ما استبعدنا القروض المحلية والاجنبية التي سيتم تسديدها من الموارد النفطية المستقبلية.
مع كل الزيادات التي حصلت في الموارد النفطية والناتج المحلي الاجمالي، الا ان اسهام القطاعات الانتاجية غير النفطية اخذت في التدهور.
حيث كان اسهام القطاع الصناعي، عدا قطاع النفط، بحدود 13% والزراعي بحدود 12,5% عام 2003، وانخفضت الى حدود 1,5% واقل من 3% على التوالي.
ومن الملاحظ ان انخفاض نسبة القطاعات الانتاجية غير النفطية اكثر من نسبة ارتفاع القطاع النفطي، وهو ما يثير القلق .
وفي نفس الوقت تعاظم الانفاق الاستهلاكي في جميع الاتجاهات.
حيث ارتفع عدد موظفي الدولة من حوالي 850 الف شخص عام 2004 الى حوالي 2,7 مليون شخص عام 2010 وسيرتفع الى حوالي 3 مليون شخص عام 2012،
هذا عدا العاملين باجور يومية والمتعاقدين، وعدا العاملين في الشركات العامة.
واذا ما اضفنا هذه الاعداد فان الرقم سيزيد الى اكثر من 4 مليون شخص،
اضافة الى حوالي 2 مليون متقاعد وحوالي مليون شخص يتسلمون المعونة الاجتماعية،
فان العدد سيصل الى اكثر من 7 مليون انسان،
وقد حصل كل ذلك استجابة للضغوط الكبيرة لامتصاص جزء من البطالة في العراق، وحل مشكلة الفقر وضحايا الاعمال الارهابية.
دون الالتفات الى دور هذا الجهاز في العملية الانتاجية وانتاجية العمل، وارتفعت اعباء الدولة المالية المتعلقة بتغطية الرواتب والخدمات المقدمة للجهاز الاداري،
وفي نفس الوقت ادت هذه الحلول الى الارتفاع في نسبة البطالة المقنعة، وتعقيد عمل الجهاز الحكومي، ولم تؤد هذه السياسة الى حل مشكلة البطالة جذريا.
وانما ادت الى تعزيز اعتماد عدد اكبر من الشعب العراقي على الحكومة، وتعميق التوجه نحو سيطرة الحكومة على مصائر الشعب، ومن ثم الدكتاتورية.
وفي نفس الوقت ارتفعت مطالب الجماهير من الحكومة للقيام بحل المشاكل المستعصية المتعلقة بالخدمات والفقر والبطالة والسكن وغيرها من المطالب الحياتية.
ونتيجة لتعمق الانفاق الحكومي الاستهلاكي، وعدم تمكن الانتاج المحلي لتغطية الحاجات الاستهلاكية،
فقد ارتفعت استيرادات العراق من السلع والخدمات من حوالي 9,6 مليار دولار عام 2003 الى 58 مليار دولار عام 2010 والى 64 مليار دولار عام 2011
( حسب احصائيات منظمة التجارة الدولية).
وقد ادى ذلك الى ظهور احتكار شبه كامل للنشاطات الاقتصادية من قبل القطاع التجاري، وتشكيل طبقة من التجار الطفيليين،
مرتبطة مع اجهزة الدولة الادارية بمصالح متشابكة، ترعاها رجالات سياسة متنفذة تدافع عن هذه المصالح وتحميها،
وتسعى بشكل جدي لاضعاف القطاعين الصناعي والزراعي، واجهاض اي بادرة من بوادر التنمية الاقتصادية المستدامة، وقطع الدابر عن اي تطور صناعي او زراعي في القطاعين العام اوالخاص.
ولهذا لم يتم حل مشكلة الكهرباء حتى الان ولم تنفذ السياسات الاستراتيجية، التي تم اعدادها بالتعاون مع المؤسسات والمنظمات الدولية، المتعلقة بالقضاء على الفقر والبطالة وتنمية القطاعين العام والخاص وغيرها الكثير.
من الواضح ان عوائد النفط هي تحت تصرف الحكومة ( اي حكومة في العراق)،
وهذا يعني امكانيات مالية متنامية تحت تصرفها وتصرف القوى السياسية الحاكمة والقريبة منها، يتم كسبها بسهولة عن طريق زيادة انتاج النفط وتصديره،
اضافة الى امكانيات واسعة بالتصرف بحرية بهذه الاموال، من اجل تكريس االسلطة ودورها في الحكم، يساندها في ذلك كل القوى التي تحتكر النشاط الاقتصادي التجاري،
وتتبادل الاسناد فيما بينها من اجل تعزيز التوجه نحو التجارة، وضمان تراكم الثروة لديهم باسرع وقت واسهل الطرق.
ومن مصلحة كل هذه القوى تغييب مبدأي الافصاح والشفافية في الانفاق الحكومي والياته،
ومخالفة القوانين والانظمة المرعية والدستور، ونشر الفساد الاداري والمالي
وهو ما يحصل في العرااق.
وهذا ما يبرر سعي الحكومات المتعاقبة لزيادة الواردات النفطية، دون التوجه الى الحلول الجذرية للمشاكل التي يعاني منها الاقتصاد العراقي.
وقد ادى ذلك الى وقوع الاقتصاد العراقي بين فكي كماشة قوية ومتماسكة، ذراعاها :
1- عوائد النفط، التي تعتمد على اقتصاديات الدول المستهلكة، واسعار صرف الدولار بشكل اساسي، والمضاربة والمنافسة بين الدول المصدرة للنفط،
وغيرها من العوامل الدولية السياسية والاقتصادية والاجتماعية،
اضافة الى التطورات التكنلوجية المتعلقة بمصادر الطاقة البديلة.
وغيرها من العوامل التي من الممكن ان تؤثر على العوائد النفطية.
2- اعتماد السوق العراقي على استيراد معظم احتياجاته من السلع والخدمات والتكنلوجيا، التي بدورها تعتمد على نفس العوامل السابقة الذكر.
وهذا يعني زيادة تأثيرات العوامل الخارجية على الاقتصاد العراقي وتبعيته الكبيرة لاقتصاديات الدول الاخرى.
واذا ما استمر الحال على ذلك، فأن الاقتصاد العراقي سينهار كليا في حالة تعرضه لاي هزة في اقتصاديات الدول المؤثرة على الاقتصاد العراقي.
ومن هنا تنبع اهمية وجود رؤية اقتصادية واضحة مع ضرورة تجسيدها في استراتيجية وخطط تنفيذية تعني بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية،
مرتبطة بجدول زمني واهداف محددة قابلة للتنفيذ والرقابة والمحاسبة، تهدف الى تنويع الاقتصاد العراقي وتعزيز قدراته ،
مع برامج مكثفة لتدريب وتطوير الايدي العاملة العراقية، بمختلف مستوياتها حسب متطلبات سوق العمل، سواء في القطاع النفطي او في القطاعات الاخرى،
مع ضرورة ربط الموازنة العامة للدولة بهذه الاهداف، وتحقيق مبدأ ادارة كفوءة للموارد النفطية والاقتصاد العراقي.
ومن اجل التسريع في عملية التنمية،
من الضروري تأسيس مصرف تنموي يقوم بالمساعدة على تفعيل النشاط الاقتصادي،
بشقيه العام والخاص،
وبرأس مال مناسب بحدود خمسة مليارات دولار، يتم تكوينه خلال سنتين.
ان المعوق الاكبر في تنمية الاقتصاد العراقي في جميع مفاصله وفروعه هو النقص الحاصل في تلبية الاحتياجات في الطاقة الكهربائية.
وأن تلكؤ العراق في تطوير قطاع الطاقة الكهربائية، يشكل خسارة كبيرة للاقتصاد العراقي، ومعوقا اساسيا لعملية التنمية الاقتصادية فيه.
ان امام العراق فرصة ذهبية لاستغلال امكاناته المالية الحالية لتطوير اقتصاده، ليتحول الى قوة اقتصادية فعالة وتحقيق رفاهيته وازدهاره.
وكل هذا يتطلب استقرارا سياسيا وامنيا، واعادة هيكلة مؤسسات الدولة، وسيادة القانون والامتثال لتطبيق بنوده، ومحاربة الفساد الاداري والمالي، في اطار وطني تتفق عليه القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة.
وعسى ان تعمل القوى السياسية، ولو قليلا للاستماع الى المنطق الاقتصادي، من اجل تجنيبها وتجنيب العراق من المطبات الاقتصادية والاجتماعية المقبلة، التي من الممكن ان تزعزع كل الكيان العراقي، وتؤدي الى كوارث لم يحسب لها حساب.
*) خبير اقتصادي ومالي
عن جريدة العالم يوم الخميس 31/1/ 2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق