أنطوان فرح
الاثنين 08 تموز 2019
قيل الكثير في قراءة خلفيات ومفاعيل وصدقية
التقرير الذي أصدره صندوق النقد الدولي
في توصيف الوضع المالي في لبنان،
والنصائح التي أسداها للتصدّي للأزمة.
لكن الأخطر، ما لم يقله التقرير بوضوح وفي المباشر،
واكتفى بإعطاء عناوين عريضة وتلميحات
تحتاج تفسيرات إضافية لا تدعو الى الارتياح.
لسبب أو لآخر،
هناك قناعة شعبية
وربما على مستوى بعض القيادات السياسية،
بأنّ المجتمع الدولي لن يسمح بانهيار لبنان.
هذه المقولة السائدة منذ سنوات ساهمت ربما، في التراخي والاهمال
الذي أوصل الأزمة إلى ما هي عليه اليوم.
والواقع انه لا يمكن الركون إلى هذه القناعة الواهمة،
لبناء حسابات اقتصادية ومالية تُخرج البلد من النفق قبل الوصول إلى الهاوية.
وللعلم،
ما يُسمّى انهياراً أو افلاساً، يكاد يكون شائعاً،
وهذا الأمر يعرفه من يراجع تاريخ إفلاسات الدول.
في القرنين الماضيين،
أشهرت 83 دولة إفلاسها
بسبب تخلفها عن دفع التزامات ناجمة عن ديون داخلية وخارجية.
وتضمّ لائحة الدول التي أفلست لمرة أو أكثر، اقتصادات كبيرة
أشهرها الولايات المتحدة، ألمانيا، اليابان، المملكة المتحدة، والصين.
وعلى سبيل المثال،
أعلنت 13 دولة في أميركا الشمالية من أصل 23 دولة،
إفلاسها مرة واحدة على الأقل.
ولعلّ روسيا،
والتي بات اقتصادها اليوم في وضع جيد،
هي النموذج الأبرز في لائحة الدول التي أفلست
ومن ثم مَشت على درب التعافي وصولاً إلى الاستقرار والازدهار.
وقد حصل ذلك في العام 1998.
وللمفارقة،
وقبل أيام قليلة من اعلان الإفلاس،
كان الرئيس الروسي بوريس يلتسين يلقي خطاباً
يؤكد فيه أنه لا يوجد تفكير مطلق في خفض قيمة العملة (روبل).
لكن الروبل انهار بعد بضعة أيام من هذا التأكيد،
وأعلنت روسيا إفلاسها،
ولم تخرج من أزمتها سوى بعد تدخل صندوق النقد الدولي
ودعمها بـ11.2 مليار دولار.
إلى جانب دعم آخر وفّرته البلدان الصناعية الكبرى بقيمة 11 مليار دولار.
في دراسة سريعة لِما جرى في الدول التي أفلست،
وبما أنه لا يوجد قانون دولي واضح،
كما هي الحال في الشركات مثلاً، ينظّم طريقة إدارة ألتفليسه والخروج منها،
فإنّ المواقف والأساليب المعتمدة لمواجهة الإفلاس عندما يقع، تختلف بين دولة وأخرى.
لكن هناك قواسم مشتركة يمكن البناء عليها
لاستنتاج حقائق ستحصل في أي دولة تعلن إفلاسها،
من أبرزها ثلاث:
1- اضطرابات شعبية واحتجاجات تختلف نسَب انتشارها وخطورتها بين دولة وأخرى.
2- إجراءات مالية طارئة
مثل
إغلاق المصارف مؤقتاً،
وبدء مفاوضات مع الدائنين، مباشرة
أو عبر راعٍ وسيط، مثل نادي باريس أو صندوق النقد الدولي.
3- الاتفاق على خطة ما بعد ألتفليسه،
برعاية وشروط من سيقدّم الدعم ويسدّد الديون، أو قسماً منها.
طبعاً، هذه الخطوات لا تحصل بسرعة وسلاسة، وغالباً ما تكون شاقة وطويلة.
في الوضع اللبناني،
واذا افترضنا الوصول إلى مرحلة ،
من دون أن يعني ذلك التكهّن بحصول الأمر،
فإنّ السيناريو المرجّح قياساً بالحقائق الثلاث السالفة الذكر،
سيكون على الشكل التالي:
1- الاحتجاجات الشعبية المحتملة قد تتحول الى «صراعات» سياسية ومذهبية،
إذ يلجأ كل طرف الى تحميل المسؤولية الى طرف آخر.
وتتحول الاضطرابات
من الهم المالي
الى مواجهات عقائدية ومذهبية يدافع فيها كل فريق عن كرامة زعيمه.
2- الإجراءات الميدانية ستشمل حتماً
إغلاق المصارف مؤقتاً،
وشَل الحركة في كل القطاعات
بانتظار بدء مفاوضات وإجراءات الخروج من الأزمة.
3- بما أن وضع لبنان لا يسمح له بالتوجّه نحو نادي باريس لطلب المساعدة،
فإنّ الطريق الوحيد السالِك سيكون طريق صندوق النقد الدولي.
ومن هناك تبدأ مسيرة تقييم الخسائر ووضع خطة الخروج،
والخطة تشمل بطبيعة الحال الإجراءات
التي تكون بمثابة شروط إلزامية يضعها الصندوق لتقديم الدعم.
هنا نعود الى تقرير صندوق النقد الذي صدر أخيراً، لكي نقرأ ما لم يُكتب.
إذ ورد في التوصيات العبارة التالية:
«مطلوب خطة مالية متوسطة الأجل ذات مصداقية
تهدف إلى تحقيق فائض مالي أوّلي كبير ومستدام،
من شأنه أن يخفض بثبات نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي مع مرور الوقت».
واذا كانت التوصيات
بزيادة الضريبة على القيمة المضافة،
أو حتى رفع تعرفة الكهرباء سريعاً،
وزيادة الضرائب على البنزين،
كلها توصيات واضحة لا تحتاج تفسيراً،
فإنّ مسألة المطالبة بخطة مالية هي بيت القصيد.
وهنا لا حاجة الى الاجتهاد،
ويكفي أن نراجع تجارب سابقة للصندوق
أو نطّلع على المعايير العالمية المعتمدة اقتصادياً لتطبيع اقتصاديات الدول،
بما يقودنا الى استنتاج فرض الخطوات التالية:
أولاً - خفض حجم القطاع العام بنسبة 50 في المئة تقريباً.
وهذا يعني
انّ المطلوب خفض الرواتب الى النصف،
أو خفض عدد الموظفين الى الحد الذي يصبح معه مجموع أجورهم حوالى 3 مليارات دولار سنوياً.
(حالياً تجاوز الـ6 مليارات دولار).
ثانياً - بيع المؤسسات العامة (خصخصة) على وجه السرعة.
ثالثاً - إلغاء كل انواع الدعم للسلع والنقد الوطني.
(التخلّي عن سياسة تثبيت سعر الصرف).
هذه هي الشروط التي ستتضمنها خطة صندوق النقد للخروج من الأزمة.
وهي شروط موجعة جداً،
لكنها ستؤدي في النتيجة إلى الخروج من الأزمة
إذا تمّت مراعاة شروط الإصلاح أيضا
المرتبطة بخفض منسوب الفساد والسرقة والهدر.
لأنّ تجارب الدول التي أفلست مرة ومرتين وثلاث وعشر مرات
(مثل الإكوادور، فنزويلا وبيرو)،
أثبتت إن الإفلاس قد يتكرّر
حالما تخرج الدول عن المعايير العلمية للاقتصاد السليم،
وفي حال استمر الفساد قائماً.
بصرف النظر عن الطريق الوعر
الذي سيضطر البلد إلى سلوكه في حال الإفلاس،
فإنّ الأكيد إن الثمن سيدفعه الناس.
لأنّ القدرة الشرائية ستتراجع بنسَب مخيفة،
ولأنّ الوقت الذي قد يستغرقه الشفاء قد يمتد بين خمس سنوات وسبع،
وهو العمر الافتراضي لأزمات الإفلاس التي شهدتها الدول.
وسيكون الثمن باهظاً أيضا على اللبنانيين
لجهة مدّخراتهم المودعة في المصارف،
لأنّ هذه الودائع لا يمكن أن تبقى كما هي،
في حال الوصول إلى الإفلاس.
وعلى سبيل المثال،
عندما أفلست الأرجنتين في العام 2001
عرضت على الدائنين تسديد 33 في المئة من أصل المبلغ فقط.
لبنان لم يصل الى ساعة إعلان الإفلاس،
والكلام عن مفاعيل الإفلاس لا يهدف الى الترويج له،
بل انّ المطلوب اختيار الإجراءات الموجعة منذ الآن،
إذا أردنا أن نتحاشى الاجراءات التي ستُفرض علينا
إذا استمررنا في التعاطي مع الأزمة على غرار ما فعلنا في موازنة 2019.
https://www.aljoumhouria.com/news/index/478402
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق