د.عبدالحسين العنبكي *:
– نشر في 25/05/2015
الاستقراء التاريخي منذ عقود خلت ،
يؤكد وجود علاقة دالية Function relationship طردية وبمعنوية عالية
بين حجم الإيرادات النفطية وحجم الإنفاق الحكومي ،
ما يماثل هذه العلاقة السببية
التي قد تبدو منطقية على صعيد الاقتصاد الجزئي (Microeconomic)،
حيث كلما ازداد دخل الفرد ازداد انفاقه بنسبة اكبر من ادخاره
في المراحل الأولى التي فيها حاجات غير مشبعة ،
أي ان ميله الحدي للاستهلاك عالي، والعكس بالعكس ،
ولكن حصول نفس هذا الميل الاستهلاكي على صعيد الاقتصاد الكلي ( Macroeconomic )،
فهو يعني بكل بساطة ،
أن هناك حكومات ساذجة لا تعرف تدابيرها،
تجعل إنفاقها متغيراً تابعاً بالكامل لحجم إيراداتها النفطية ،
وتتصرف كما لو ان سلوكها الاستهلاكي سلوك فرد ،
وليس سلوكاً جمعياً
يمثل تجميعاً حسابياً لسلوكيات الأفراد ، مضافاً اليه متغيرات أخرى
لها علاقة بتقاطع المصالح الفردية التي لا يمكن ان تتواءم وتتناسق الا في إطار دولة ،
تسلك سياسات اقتصادية في إطار الاقتصاد الكلي .
من هنا تأتي الكارثة الاقتصادية للعراق ،
فالاقتصاد العراقي تعمل متغيراته الكلية بطريقة متغيراته الجزئية ،
لان أصحاب القرار كانوا في الغالب غير مختصين واسرى سلوكهم الغرائزي الشعوري ،
وعندما يضع قرارات للدولة تكون مدفوعة بقوى الفرد لا بقوى الكل
علماً ان الكل لا يساوي حاصل جمع قوى الأفراد ،
لان
المتغيرات العشوائية Random variables
والمتغيرات الوهمية Dummy variables
والمتغيرات التي يتنازل بها الفرد عن نزعاته للكل
لا تظهر الا عندما يفكر متخذ القرار بسلوك دالة كلية ،
وعلية بقي الاقتصاد العراقي لعقود طويلة
أسير هذه العلاقة الطردية بين إيرادات النفط وحجم الإنفاق الحكومي ،
دون التفكير بإيجاد مخزون لأغراض التوازن ،
وبما ان الإيرادات النفطية
تتأثر بالمتغيرات الخارجية أكثر مما تتأثر بالمتغيرات الداخلية ،
فأن الاقتصاد العراقي يبقى أسير أسواق النفط
التي تتقاذفها المعطيات السياسية والإستراتيجية الدولية
اكثر مما تؤثر فيها قوى العرض والطلب على النفط ،
رغم ان الأخير صار مهما أيضا
بعد اكتشاف بدائل للنفط يمكن استغلالها بمؤشرات تجارية ناجحة ،
ومن يضع اقتصاده تابعاً لهذه المتغيرات الخارجية،
عليه ان لا يتوقع اقتصاداً مستقراً ومستقلاً في يوم ما .
في ضوء نظريات الاقتصاد الكلي
تعمل اقتصادات العالم على أساس ان الدولة حارسة ومنظمة وتدخلية،
فهي حارسة لحقوق وملكيات القطاع الخاص،
ومنظمة بكل يسر وشفافية لمتطلبات عمله،
وتدخلية بشكل إيجابي لإنقاذ الاقتصاد من أي ازمة (لا استقرار) تمر عليه
سواء كانت (تضخمية ام ركودية) ،
الا في العراق،
فالاقتصاد لدينا يعمل بالمقلوب تماماً خلاف كل أنظمة العالم الاقتصادية ،
ومصاديق ذلك هو الأتي:
أولا: الدولة في العراق لازالت مالكة وليست حارسة:
يكفي انها تملك إيرادات النفط
وهو خلاف الدستور ما لم توصلها او توصل منافعها للشعب ،
لأن النفط هو ملك الشعب العراقي حسب المادة (111) من الدستور ،
وكلما أتخمت جيوبها بالإيرادات النفطية
أنفقت بكل طيش وهدر على مجالات استهلاكية ومظهرية
ووضعت التخصيصات العالية وتركتها سائبة دون رقيب ولا حسيب ،
حتى خلقت طبقة من الفاسدين المترفين قبالة شرائح فقيرة واسعة
واحتياجات حقيقية غير مشبعة من السلع والخدمات العامة والخاصة ،
واذا انفقتها في مجالات استثمارية فالمصيبة اعظم ،
اذ يتسابق الفاسدون في مختلف جهات التعاقد على التلاعب في الأولويات
فتخصص الأموال الطائلة للمشاريع التافهة وغير المهمة
طالما إنها تتيح اكبر فرصة ممكنة للفساد ،
ولذلك تجدهم يستحدثون مشاريع ارضائية غير حقيقية
لكسب أصوات مناطقية توضع لها (أحجار الأسس) باحتفاليات استعراضية ،
وتبقى تمول (بالقطارة)
لان الأموال فتت على الاف المشاريع التي لم تنفذ او انها نفذت جزئياً
لتبقى جرحاً نازفاً في جسد العراق ،
وضرعاً يرضع منه الفاسدون من موظفي الدولة والمفسدون من المقاولين الطارئين ،
وعبثت أيادي الفساد في مواصفات التنفيذ وفي كلفه
وصارت المواقع الوظيفية
ذات التماس المباشر بإبرام العقود وإحالتها وتنفيذها
تباع وتشترى في بورصة الفساد ،
وعجزت الدولة
من أن يكون إنفاقها عقلانيا، وأوغلت في التبذير وهدر الأموال
ولم تقرأ جيداً سوق النفط وتذبذباته
ولم تحاول ان تخلق (صندوقاً للاستقرار)
يوازن بين حجوم الإنفاق العام في فترات الرخاء و حجومه في فترات العسر ،
ولو كان هذا الصندوق متاحاً
لاستطاعت الحكومة اليوم من استعماله لاغراض استدامة التنمية والاعمار ،
واستدامة دفع مستحقات الشركات عليها
بدلا من التنصل عنها وسيادة حالة من اللاثقة بين الحكومة والمتعاملين معها
وما تبع ذلك من رسائل سيئة يتلقفها المستثمرون العراقيون والأجانب
وتجعلهم يتحسبون كثيرا في القدوم الى العراق والاستثمار فيه حاليا ومستقبلا ،
ويكون العراق الخاسر الأكبر من إشاعة مثل هذه المؤشرات الطاردة .
ان التوسع في الإنفاق الحكومي في أوقات الركود والكساد
لإخراج الاقتصاد من فخ الضغوط الانكماشية
هو ما يجب ان يكون وليس العكس ،
لان انكماش الأنفاق الحكومي متزامنا مع انكماش الاقتصاد
يجعل الأثر مضاعفا ،
والبطالة تستشري بمعدلات مضاعفة
والانفجار المجتمعي يكون محتملا
والحلول المتاحة تكون أصعب ،
مثلما يكون تزامن توسع الإنفاق الحكومي مع التضخم الجامح
ذا اثر مضاعف
قد يجعل القوة الشرائية للأفراد تتآكل بشكل متسارع
والقيم الاجتماعية أيضا تتآكل بشكل متسارع
حتى تعصف بالطبقة الوسطى باتجاه الفقيرة
وتدفع بالفقيرة الى ما دون خط الفقر ،
وكل ذلك لان العلاج بالمقلوب ،
وحتى متخذ القرار امام الخيارات المحدودة
يصبح مجبرا على العلاجات التي بالمقلوب
والتي تسارع في موت المريض دون ان تشفيه ،
فلو استطاعت حكومة حكيمة
ان تكبح جماح التضخم المرافق لتعاظم إيرادات النفط
من خلال حجز قسم من قدراتها الانفاقية في (صندوق الاستقرار المقترح)
وبذلك تمارس أثراً انكماشياً
لإخراج الاقتصاد من فخ الضغوط التضخمية ،
وبالتبعية
فإنها سوف تستطيع السحب من (صندوق الاستقرار )
كي تزيد إنفاقها الحكومي في أوقات الانكماش ،
وتكون قد مارست اثراً توسعياً
لإخراج الاقتصاد من فخ الضغوط الانكماشية ،
فإنها تكون حكومة حكيمة
تعمل وفق المنطق الاقتصادي
وتستخدم ادوات السياسات الاقتصادية بشكل صحيح ،
ولان الحكومة لا تفكر بعقلية الاقتصاد الكلي
فأنها لم تعتمد سياسات اقتصادية كلية مؤثرة في الاقتصاد ،
هذا اذا كان هذا الفهم المنطقي متاح أصلا لدى متخذي القرار ،
وهو الأمر الذي استبعده
في إطار تسلق غير الاقتصاديين الى كل المواقع الاقتصادية في الدولة
بحثا عن خرائط الكنوز المخبأة في تلك المواقع ،
عليه فان الاقتصاد العراقي سيبقى بالمقلوب إلى ما شاء الله.
ثانيا: الدولة في العراق لازالت منظماً سيئاً للعملية الاقتصادية :
يأتي العراق ،للأسف الشديد،
في ذيل قائمة الدول من بين (186) دولة في مجال تسهيلات الأعمال ،
بمعنى انه أكثر البلدان سوءا في بيئة الأعمال والاستثمار،
حسب تقارير البنك الدولي السنوية
حيث يقيس تقرير ممارسة الأعمال
الأنظمة التي تشجع أنشطة الأعمال أو تقيدها عبر 9 مجالات أو “مؤشرات” أساسية
هي
(بدء الأعمال، والتعامل مع إجازات البناء، وتسجيل الأملاك، والحصول على تسهيلات ائتمانية،
وحماية المستثمرين، ودفع الضرائب، والتجارة عبر الحدود، وتنفيذ العقود، وإغلاق الأعمال) ،
فكيف ندعو المستثمرين للاستثمار في العراق
وهم مطلعون على مثل هذه التقارير
ولكل صعوبة تواجههم هنالك كلفة
وكلما تعاظمت الكلف صار الاستثمار غير مربح وغير مجدي
وفق معايير (التكلفة /العائد) ،
وإذا كان (الاستثمار الكلي = الاستثمار الحكومي + الاستثمار الخاص )
وحيث ان الاستثمار الحكومي قد تراجع بحدود 80% في الموازنة العامة لسنة 2015
التي تواجه نقصاً كبيراً في الإيرادات العامة ،
فلا سبيل أمام الحكومة إلا زيادة الاستثمار الخاص
إذا ما أرادت الحفاظ على مستوى معقول من النمو في الناتج المحلي الإجمالي
يتبعه مستوى معقول من التشغيل لعناصر الإنتاج
للحيلولة دون انحدار الاقتصاد الى ازمة كساد خانق ،
وحيث ان الاستثمار لا يأتي إلا بتحسين بيئة الأعمال
فان (الواجب البيتي) لحكومة العراق
يتمثل بالتركيز على (تحسين بيئة الأعمال Improve the business environment)
وسوف تأتي الاستثمارات المحلية والأجنبية لسد النقص في الاستثمار الحكومي ،
وأي إصلاحات يتخذها العراق
ينبغي مراقبتها وتمكين المستثمر من الوصول اليها بكل شفافية ،
وهنا لابد من قمع الفساد بيد من حديد
كي لا تمتد اذرعه القذرة الى آليات العمل الميسرة
ويحاول تعقيدها مجددا لغرض الابتزاز،
ان مراقبة أثر الإصلاح
سوف يسلط الضوء على مجالات النجاح
وكذلك على المجالات التي تحتاج إلى المزيد من الجهد على حد سواء،
وفي الوقت ذاته،
فإن توصيل الإصلاحات توصيلاً فعالاً
إلى الوكالات المنفذة ومجتمع الأعمال والمجتمع القانوني وعامة الجمهور
سوف يضمن قبول التغييرات ووضعها موضع التنفيذ،
وسوف يظهر الاتصال الفعال
أن حكومة العراق تتخذ خطوات إيجابية
لزيادة قدرة البلد على التنافس
وحرية الدخول والخروج من والى اسواق السلع والخدمات والأعمال.
ثالثا : الدولة في العراق تتدخل عكسيا في الاقتصاد:
لازال دور الدولة في العراق، بالمقلوب،
عما هو عليه دور الدولة في اقتصاديات السوق،
حيث تعمل الدولة في اقتصاد السوق
على أساس التدخل الإيجابي بأضيق الحدود اللازمة لإعادة الاستقرار
وحيث ان الطلب الكلي هو حاصل جمع الطلب الحكومي والطلب الخاص ،
فعندما يتراجع الطلب الكلي نتيجة تراجع الطلب الخاص ،
بسبب حصول
ضغوط انكماشية Deflationary pressures
وتراجع مستوى الإنتاج والتشغيل والدخول الموزعة لعناصر الإنتاج ،
فأن الحكومة تتدخل من خلال زيادة الطلب الحكومي مدفوعاً بزيادة الإنفاق الحكومي ،
مؤدياً الى تنظيم الموازنات العامة بعجز أي (النفقات العامة اكبر من الإيرادات العامة)
لإخراج الاقتصاد من حالة عدم الاستقرار ومنعه من الانزلاق نحو الانكماش والكساد ،
ويحصل العكس تماما عند حصول
ضغوط تضخمية Inflationary pressures ،
حيث يكون الطلب الخاص متزايد بمعدات كبيرة
تضطر الحكومة الى تقليص الطلب الحكومي من اجل العودة الى الاستقرار المرغوب ،
اما في العراق
فان حجم الانفاق الحكومي وهو ممول من الإيرادات النفطية بنسبة 95% ،
والموازنة العامة للدولة تمثل بحدود 45% من الناتج المحلي الإجمالي GDP
في حين هذه النسبة لا تتجاوز 7% في مصر مثلا ،
وهذا يعني هيمنة الإنفاق العام على الأداء الاقتصادي في العراق ،
فيما يكون مع الأثر غير المباشر للإيرادات النفطية
في خلق الناتج المحلي الإجمالي بحدود 80% ،
وعلية فأن التراجع في الطلب الكلي
يأتي في الغالب
من التراجع في الطلب الحكومي الناتج عن تراجع الإنفاق الحكومي
المتراجع بسبب تراجع أسعار النفط ،
ثم ينكمش القطاع الخاص بوصفه مقاولاً لدى القطاع الحكومي في الغالب ،
فيكون الوضع بالمقلوب،
بدلاً من انكماش القطاع الخاص وتكون الحكومية تدخلية لإنقاذه،
ينكمش القطاع الحكومي ويطلب من القطاع الخاص ان يكون ذا دور تدخلي لإنقاذها ،
وهي مفارقة مضحكة ، وقواعد اللعبة إذن بالمعكوس،
حيث تتغير معادلات التعامل مع القطاع الخاص ،
من وضع معادلة التهميش عندما تكون جيوب الحكومة متخمة
الى وضع التوسل والتودد لحثهم على الاستثمار
وأقامه المشاريع واستكمالها بالدفع لأجل وبأساليب أخرى
جميعها تصب في خانة ، إقراض الحكومة ،
وهذا أمر عجيب تعجز النظريات الاقتصادية من التعاطي معه.
رابعاً: السياستان المالية والنقدية هي الأخرى.. بالمقلوب :
في الأدبيات الاقتصادية التي يعمل عليها العالم كله ،
يجب ان تكون السياستان متناغمتين غير متناقضتين في الهدف والتوجه،
فأما ان يكونا توسعيتين معاً ، في حالة الانكماش Deflation ،
او تكونا انكماشيتين معاً في حالة التضخم Inflation ،
إلا في العراق ،
ففي الرخاء
حيث الإيرادات النفطية كبيرة
تتوسع الحكومة بالإنفاق العام
وتنظم الموازنة بعجز كبير قد يكون تخطيطي ،
ولكنه توجه نحو التوسع في الإنفاق والغاية منه إحداث التنمية ،
وقد نبرر ذلك
لان البلد يعاني من تخلف ويريد ان ينمو بخطى أوسع
ويخلق عملية تنمية لتضيق فجوة التخلف ،
ولكن غالبا ما تصاحب ذلك
سياسه نقدية انكماشية تبتلع جزءً مهماً من الأثر التوسعي للسياسة المالية ،
فنبقى ندور عند نفس المستوى المتخلف
الذي كنا نرغب في الانطلاق منه نحو مستويات اعلى ، والعكس بالعكس ،
في حالة شح الإيرادات النفطية لدى الحكومة ينكمش الانفاق الحكومي في مختلف الأنشطة
ويحدث انكماش في الاقتصاد واضح المعالم والأثر ،
ثم تتدخل السياسة النقدية بجرعات توسعية
تحاول إنقاذ الإنفاق الحكومي المتراجع
وتعيد الأمور الى نصابها في إطار حدود ومستويات روتينية
هي (إدامة الإنفاق الحكومي التشغيلي بحدوده الدنيا ) ،
وكأن نقطة الاستقرار المرغوبة لدى السياسات الاقتصادية المالية والنقدية
هو ان تلغي كل منها أثر الأخرى التوسعي، ليبقى البلد عند مستوى من التخلف المرغوب .
خامسا: الدولة تعتمد إجراءات بوليسية وليست سياسات اقتصادية:
نجد ذلك بوضوح في ثقافة الموظف العراقي وثقافة متخذ القرار الاقتصادي ايضا ،
في كثير من المفاصل التي لا يسع المقام الى سردها
واكتفي بحالة شائعة ،
حيث يطل علينا بين الحين والأخر مسؤولون
يتحدثون عن تهريب النقد الاجنبي من العراق،
ويقترحون المزيد المزيد من الاجراءات البوليسية لمنع الظاهرة ،
يوغلون في التفاصيل ويغرقون بقصص الملاحقات وقصص التعجب
وربما الاعجاب بقدرة المهربين في التحايل واجتياز كل العقبات التي وضعوها ،
وربما التغني ببطولاتهم لانهم مسكوها ومنعوها من الخروج وربما يصبحون ابطال وطنيين .
والحقيقة مختلفة تماما عن تصور هؤلاء الابطال ،
فلا توجد قضية اصلا في المفهوم الاقتصادي ،
ولا داعي للاجراءات البوليسية المتخذة والبطولات الزائفة ،
باختصار شديد ،
(لان النقد الاجنبي يَهْرب من العراق ولا يُهَرب، أيها السادة ) ،
وما تقومون به من اجراءات هو ايضا (بالمقلوب) .
في كل العالم ونحن لسنا بمعزل عنه ،
ولكل دولة ميزان مدفوعات The balance of payments
يحتوي شقين :
الشق الأول : ميزان تجاري Balance of trade،
وهو بالضرورة ولابد
ان يقابل خروج النقد الأجنبي
دخول سلع وخدمات بقيمته ، تدخل الى البلد لتساهم في العرض الكلي ،
وهنالك آليات محكمة
تتمثل بالاستيراد وفق اعتمادات مستندية ،
وسميت مستندية
لان النقد الأجنبي لا يطلق للمصدر الا بمقدار السلع والخدمات المثبتة في مستندات
وتصل الى منفذ الاستلام وتقيد ويتم إشعار المصرف التجاري بالإطلاق.
الشق الثاني: حركة رؤوس الأموال Movement of capital من والى البلد ،
وهي حركة مشروعة ولها أسس نظرية وتحميها قوانين محلية ودولية،
وهي أموال تبحث عن فرص استثمارية مربحة،
وتبرع الدول لإيجاد بيئة جاذبة لها ،
حيث النافذة الواحدة
وتهيئة دراسات جدوى رصينة
وتهيئة الاراضي المخصصة والمخلصة من المشاكل
وتسهيلات لوجستية هائلة
ليأتي المستثمر بأمواله ويستثمر في البلد ،
حيث عندما يكون البلد جاذباً ومربحاً تسجل حركة رؤوس الأموال من الخارج للداخل ،
وعندما يكون البلد (مثل العراق ) طارداً وبيئة الاستثمار سيئة وتتقاذفها أهواء الفاسدين
تهرب رؤوس الأموال ،
اي يهرب النقد الأجنبي من البلد الى الخارج باحثا عن فرص مربحة وآمنة للاستثمار،
بدليل ان العراقيين لديهم استثمارات كبيرة جدا في الخارج
وهي جزء من الناتج القومي الإجمالي (GNP)
الذي ينمو بمعدلات أسرع من (GDP) والفجوة بينهما تتسع ،
ومعظم العراقيين يرغبون في الاستثمار في العراق
ويتحسرون على عدم تمكنهم من ذلك
لان العراق طارد أيها السادة ،
فالقصة إذن ليس تهريب بل هو هروب ،
ويضطر صاحبه الى تهريبه
لأنكم وضعتم عراقيل أمام انسيابية حركة رؤوس الأموال بشكل طبيعي
تضطره الى التحايل لكي يجتازها ،
وعلية فأنكم تؤدون واجبا غير مقدس لأنه بالمقلوب ،
الواجب المقدس
هو ان تعرفوا مصادر الاموال التي بحوزة الناس ،
هل جاءت من مصادر سليمة ام لا ،
قبل ان تمنعوا خروجها ودخولها ،
الواجب المقدس
هو ان تقلبوا المعادلة ،
حسنوا بيئة الأعمال
هذا هو واجبكم البيتي،
مكنوا المختصين من إدارة هيئات الاستثمار
واعملوا على خلق حواضن للمستثمرين ،
سوف يتدفق النقد الأجنبي من الخارج للداخل
ويحقن في دورة الدخل والإنتاج المحلية وتحصل التنمية .
أشياء كثيرة أخرى عزيزي القارئ الكريم هي بالمقلوب
في اقتصاد بوصلته لدى المختصين
ولكن لا احد يطلبها ،
ويتهافت عليه الآخرين تهافت الدبابير على سلة التمر.
(*) مستشار إقتصادي في هيئة المستشارين في الامانة العامة لمجلس الوزراء
حقوق النشر محفوظة لشبكة الإقتصاديين العراقيين.
يسمح بالاقتباس واعادة النشر بشرط الاشارة الى المصدر
http://iraqieconomists.net/ar/2015/05/25//
– نشر في 25/05/2015
الاستقراء التاريخي منذ عقود خلت ،
يؤكد وجود علاقة دالية Function relationship طردية وبمعنوية عالية
بين حجم الإيرادات النفطية وحجم الإنفاق الحكومي ،
ما يماثل هذه العلاقة السببية
التي قد تبدو منطقية على صعيد الاقتصاد الجزئي (Microeconomic)،
حيث كلما ازداد دخل الفرد ازداد انفاقه بنسبة اكبر من ادخاره
في المراحل الأولى التي فيها حاجات غير مشبعة ،
أي ان ميله الحدي للاستهلاك عالي، والعكس بالعكس ،
ولكن حصول نفس هذا الميل الاستهلاكي على صعيد الاقتصاد الكلي ( Macroeconomic )،
فهو يعني بكل بساطة ،
أن هناك حكومات ساذجة لا تعرف تدابيرها،
تجعل إنفاقها متغيراً تابعاً بالكامل لحجم إيراداتها النفطية ،
وتتصرف كما لو ان سلوكها الاستهلاكي سلوك فرد ،
وليس سلوكاً جمعياً
يمثل تجميعاً حسابياً لسلوكيات الأفراد ، مضافاً اليه متغيرات أخرى
لها علاقة بتقاطع المصالح الفردية التي لا يمكن ان تتواءم وتتناسق الا في إطار دولة ،
تسلك سياسات اقتصادية في إطار الاقتصاد الكلي .
من هنا تأتي الكارثة الاقتصادية للعراق ،
فالاقتصاد العراقي تعمل متغيراته الكلية بطريقة متغيراته الجزئية ،
لان أصحاب القرار كانوا في الغالب غير مختصين واسرى سلوكهم الغرائزي الشعوري ،
وعندما يضع قرارات للدولة تكون مدفوعة بقوى الفرد لا بقوى الكل
علماً ان الكل لا يساوي حاصل جمع قوى الأفراد ،
لان
المتغيرات العشوائية Random variables
والمتغيرات الوهمية Dummy variables
والمتغيرات التي يتنازل بها الفرد عن نزعاته للكل
لا تظهر الا عندما يفكر متخذ القرار بسلوك دالة كلية ،
وعلية بقي الاقتصاد العراقي لعقود طويلة
أسير هذه العلاقة الطردية بين إيرادات النفط وحجم الإنفاق الحكومي ،
دون التفكير بإيجاد مخزون لأغراض التوازن ،
وبما ان الإيرادات النفطية
تتأثر بالمتغيرات الخارجية أكثر مما تتأثر بالمتغيرات الداخلية ،
فأن الاقتصاد العراقي يبقى أسير أسواق النفط
التي تتقاذفها المعطيات السياسية والإستراتيجية الدولية
اكثر مما تؤثر فيها قوى العرض والطلب على النفط ،
رغم ان الأخير صار مهما أيضا
بعد اكتشاف بدائل للنفط يمكن استغلالها بمؤشرات تجارية ناجحة ،
ومن يضع اقتصاده تابعاً لهذه المتغيرات الخارجية،
عليه ان لا يتوقع اقتصاداً مستقراً ومستقلاً في يوم ما .
في ضوء نظريات الاقتصاد الكلي
تعمل اقتصادات العالم على أساس ان الدولة حارسة ومنظمة وتدخلية،
فهي حارسة لحقوق وملكيات القطاع الخاص،
ومنظمة بكل يسر وشفافية لمتطلبات عمله،
وتدخلية بشكل إيجابي لإنقاذ الاقتصاد من أي ازمة (لا استقرار) تمر عليه
سواء كانت (تضخمية ام ركودية) ،
الا في العراق،
فالاقتصاد لدينا يعمل بالمقلوب تماماً خلاف كل أنظمة العالم الاقتصادية ،
ومصاديق ذلك هو الأتي:
أولا: الدولة في العراق لازالت مالكة وليست حارسة:
يكفي انها تملك إيرادات النفط
وهو خلاف الدستور ما لم توصلها او توصل منافعها للشعب ،
لأن النفط هو ملك الشعب العراقي حسب المادة (111) من الدستور ،
وكلما أتخمت جيوبها بالإيرادات النفطية
أنفقت بكل طيش وهدر على مجالات استهلاكية ومظهرية
ووضعت التخصيصات العالية وتركتها سائبة دون رقيب ولا حسيب ،
حتى خلقت طبقة من الفاسدين المترفين قبالة شرائح فقيرة واسعة
واحتياجات حقيقية غير مشبعة من السلع والخدمات العامة والخاصة ،
واذا انفقتها في مجالات استثمارية فالمصيبة اعظم ،
اذ يتسابق الفاسدون في مختلف جهات التعاقد على التلاعب في الأولويات
فتخصص الأموال الطائلة للمشاريع التافهة وغير المهمة
طالما إنها تتيح اكبر فرصة ممكنة للفساد ،
ولذلك تجدهم يستحدثون مشاريع ارضائية غير حقيقية
لكسب أصوات مناطقية توضع لها (أحجار الأسس) باحتفاليات استعراضية ،
وتبقى تمول (بالقطارة)
لان الأموال فتت على الاف المشاريع التي لم تنفذ او انها نفذت جزئياً
لتبقى جرحاً نازفاً في جسد العراق ،
وضرعاً يرضع منه الفاسدون من موظفي الدولة والمفسدون من المقاولين الطارئين ،
وعبثت أيادي الفساد في مواصفات التنفيذ وفي كلفه
وصارت المواقع الوظيفية
ذات التماس المباشر بإبرام العقود وإحالتها وتنفيذها
تباع وتشترى في بورصة الفساد ،
وعجزت الدولة
من أن يكون إنفاقها عقلانيا، وأوغلت في التبذير وهدر الأموال
ولم تقرأ جيداً سوق النفط وتذبذباته
ولم تحاول ان تخلق (صندوقاً للاستقرار)
يوازن بين حجوم الإنفاق العام في فترات الرخاء و حجومه في فترات العسر ،
ولو كان هذا الصندوق متاحاً
لاستطاعت الحكومة اليوم من استعماله لاغراض استدامة التنمية والاعمار ،
واستدامة دفع مستحقات الشركات عليها
بدلا من التنصل عنها وسيادة حالة من اللاثقة بين الحكومة والمتعاملين معها
وما تبع ذلك من رسائل سيئة يتلقفها المستثمرون العراقيون والأجانب
وتجعلهم يتحسبون كثيرا في القدوم الى العراق والاستثمار فيه حاليا ومستقبلا ،
ويكون العراق الخاسر الأكبر من إشاعة مثل هذه المؤشرات الطاردة .
ان التوسع في الإنفاق الحكومي في أوقات الركود والكساد
لإخراج الاقتصاد من فخ الضغوط الانكماشية
هو ما يجب ان يكون وليس العكس ،
لان انكماش الأنفاق الحكومي متزامنا مع انكماش الاقتصاد
يجعل الأثر مضاعفا ،
والبطالة تستشري بمعدلات مضاعفة
والانفجار المجتمعي يكون محتملا
والحلول المتاحة تكون أصعب ،
مثلما يكون تزامن توسع الإنفاق الحكومي مع التضخم الجامح
ذا اثر مضاعف
قد يجعل القوة الشرائية للأفراد تتآكل بشكل متسارع
والقيم الاجتماعية أيضا تتآكل بشكل متسارع
حتى تعصف بالطبقة الوسطى باتجاه الفقيرة
وتدفع بالفقيرة الى ما دون خط الفقر ،
وكل ذلك لان العلاج بالمقلوب ،
وحتى متخذ القرار امام الخيارات المحدودة
يصبح مجبرا على العلاجات التي بالمقلوب
والتي تسارع في موت المريض دون ان تشفيه ،
فلو استطاعت حكومة حكيمة
ان تكبح جماح التضخم المرافق لتعاظم إيرادات النفط
من خلال حجز قسم من قدراتها الانفاقية في (صندوق الاستقرار المقترح)
وبذلك تمارس أثراً انكماشياً
لإخراج الاقتصاد من فخ الضغوط التضخمية ،
وبالتبعية
فإنها سوف تستطيع السحب من (صندوق الاستقرار )
كي تزيد إنفاقها الحكومي في أوقات الانكماش ،
وتكون قد مارست اثراً توسعياً
لإخراج الاقتصاد من فخ الضغوط الانكماشية ،
فإنها تكون حكومة حكيمة
تعمل وفق المنطق الاقتصادي
وتستخدم ادوات السياسات الاقتصادية بشكل صحيح ،
ولان الحكومة لا تفكر بعقلية الاقتصاد الكلي
فأنها لم تعتمد سياسات اقتصادية كلية مؤثرة في الاقتصاد ،
هذا اذا كان هذا الفهم المنطقي متاح أصلا لدى متخذي القرار ،
وهو الأمر الذي استبعده
في إطار تسلق غير الاقتصاديين الى كل المواقع الاقتصادية في الدولة
بحثا عن خرائط الكنوز المخبأة في تلك المواقع ،
عليه فان الاقتصاد العراقي سيبقى بالمقلوب إلى ما شاء الله.
ثانيا: الدولة في العراق لازالت منظماً سيئاً للعملية الاقتصادية :
يأتي العراق ،للأسف الشديد،
في ذيل قائمة الدول من بين (186) دولة في مجال تسهيلات الأعمال ،
بمعنى انه أكثر البلدان سوءا في بيئة الأعمال والاستثمار،
حسب تقارير البنك الدولي السنوية
حيث يقيس تقرير ممارسة الأعمال
الأنظمة التي تشجع أنشطة الأعمال أو تقيدها عبر 9 مجالات أو “مؤشرات” أساسية
هي
(بدء الأعمال، والتعامل مع إجازات البناء، وتسجيل الأملاك، والحصول على تسهيلات ائتمانية،
وحماية المستثمرين، ودفع الضرائب، والتجارة عبر الحدود، وتنفيذ العقود، وإغلاق الأعمال) ،
فكيف ندعو المستثمرين للاستثمار في العراق
وهم مطلعون على مثل هذه التقارير
ولكل صعوبة تواجههم هنالك كلفة
وكلما تعاظمت الكلف صار الاستثمار غير مربح وغير مجدي
وفق معايير (التكلفة /العائد) ،
وإذا كان (الاستثمار الكلي = الاستثمار الحكومي + الاستثمار الخاص )
وحيث ان الاستثمار الحكومي قد تراجع بحدود 80% في الموازنة العامة لسنة 2015
التي تواجه نقصاً كبيراً في الإيرادات العامة ،
فلا سبيل أمام الحكومة إلا زيادة الاستثمار الخاص
إذا ما أرادت الحفاظ على مستوى معقول من النمو في الناتج المحلي الإجمالي
يتبعه مستوى معقول من التشغيل لعناصر الإنتاج
للحيلولة دون انحدار الاقتصاد الى ازمة كساد خانق ،
وحيث ان الاستثمار لا يأتي إلا بتحسين بيئة الأعمال
فان (الواجب البيتي) لحكومة العراق
يتمثل بالتركيز على (تحسين بيئة الأعمال Improve the business environment)
وسوف تأتي الاستثمارات المحلية والأجنبية لسد النقص في الاستثمار الحكومي ،
وأي إصلاحات يتخذها العراق
ينبغي مراقبتها وتمكين المستثمر من الوصول اليها بكل شفافية ،
وهنا لابد من قمع الفساد بيد من حديد
كي لا تمتد اذرعه القذرة الى آليات العمل الميسرة
ويحاول تعقيدها مجددا لغرض الابتزاز،
ان مراقبة أثر الإصلاح
سوف يسلط الضوء على مجالات النجاح
وكذلك على المجالات التي تحتاج إلى المزيد من الجهد على حد سواء،
وفي الوقت ذاته،
فإن توصيل الإصلاحات توصيلاً فعالاً
إلى الوكالات المنفذة ومجتمع الأعمال والمجتمع القانوني وعامة الجمهور
سوف يضمن قبول التغييرات ووضعها موضع التنفيذ،
وسوف يظهر الاتصال الفعال
أن حكومة العراق تتخذ خطوات إيجابية
لزيادة قدرة البلد على التنافس
وحرية الدخول والخروج من والى اسواق السلع والخدمات والأعمال.
ثالثا : الدولة في العراق تتدخل عكسيا في الاقتصاد:
لازال دور الدولة في العراق، بالمقلوب،
عما هو عليه دور الدولة في اقتصاديات السوق،
حيث تعمل الدولة في اقتصاد السوق
على أساس التدخل الإيجابي بأضيق الحدود اللازمة لإعادة الاستقرار
وحيث ان الطلب الكلي هو حاصل جمع الطلب الحكومي والطلب الخاص ،
فعندما يتراجع الطلب الكلي نتيجة تراجع الطلب الخاص ،
بسبب حصول
ضغوط انكماشية Deflationary pressures
وتراجع مستوى الإنتاج والتشغيل والدخول الموزعة لعناصر الإنتاج ،
فأن الحكومة تتدخل من خلال زيادة الطلب الحكومي مدفوعاً بزيادة الإنفاق الحكومي ،
مؤدياً الى تنظيم الموازنات العامة بعجز أي (النفقات العامة اكبر من الإيرادات العامة)
لإخراج الاقتصاد من حالة عدم الاستقرار ومنعه من الانزلاق نحو الانكماش والكساد ،
ويحصل العكس تماما عند حصول
ضغوط تضخمية Inflationary pressures ،
حيث يكون الطلب الخاص متزايد بمعدات كبيرة
تضطر الحكومة الى تقليص الطلب الحكومي من اجل العودة الى الاستقرار المرغوب ،
اما في العراق
فان حجم الانفاق الحكومي وهو ممول من الإيرادات النفطية بنسبة 95% ،
والموازنة العامة للدولة تمثل بحدود 45% من الناتج المحلي الإجمالي GDP
في حين هذه النسبة لا تتجاوز 7% في مصر مثلا ،
وهذا يعني هيمنة الإنفاق العام على الأداء الاقتصادي في العراق ،
فيما يكون مع الأثر غير المباشر للإيرادات النفطية
في خلق الناتج المحلي الإجمالي بحدود 80% ،
وعلية فأن التراجع في الطلب الكلي
يأتي في الغالب
من التراجع في الطلب الحكومي الناتج عن تراجع الإنفاق الحكومي
المتراجع بسبب تراجع أسعار النفط ،
ثم ينكمش القطاع الخاص بوصفه مقاولاً لدى القطاع الحكومي في الغالب ،
فيكون الوضع بالمقلوب،
بدلاً من انكماش القطاع الخاص وتكون الحكومية تدخلية لإنقاذه،
ينكمش القطاع الحكومي ويطلب من القطاع الخاص ان يكون ذا دور تدخلي لإنقاذها ،
وهي مفارقة مضحكة ، وقواعد اللعبة إذن بالمعكوس،
حيث تتغير معادلات التعامل مع القطاع الخاص ،
من وضع معادلة التهميش عندما تكون جيوب الحكومة متخمة
الى وضع التوسل والتودد لحثهم على الاستثمار
وأقامه المشاريع واستكمالها بالدفع لأجل وبأساليب أخرى
جميعها تصب في خانة ، إقراض الحكومة ،
وهذا أمر عجيب تعجز النظريات الاقتصادية من التعاطي معه.
رابعاً: السياستان المالية والنقدية هي الأخرى.. بالمقلوب :
في الأدبيات الاقتصادية التي يعمل عليها العالم كله ،
يجب ان تكون السياستان متناغمتين غير متناقضتين في الهدف والتوجه،
فأما ان يكونا توسعيتين معاً ، في حالة الانكماش Deflation ،
او تكونا انكماشيتين معاً في حالة التضخم Inflation ،
إلا في العراق ،
ففي الرخاء
حيث الإيرادات النفطية كبيرة
تتوسع الحكومة بالإنفاق العام
وتنظم الموازنة بعجز كبير قد يكون تخطيطي ،
ولكنه توجه نحو التوسع في الإنفاق والغاية منه إحداث التنمية ،
وقد نبرر ذلك
لان البلد يعاني من تخلف ويريد ان ينمو بخطى أوسع
ويخلق عملية تنمية لتضيق فجوة التخلف ،
ولكن غالبا ما تصاحب ذلك
سياسه نقدية انكماشية تبتلع جزءً مهماً من الأثر التوسعي للسياسة المالية ،
فنبقى ندور عند نفس المستوى المتخلف
الذي كنا نرغب في الانطلاق منه نحو مستويات اعلى ، والعكس بالعكس ،
في حالة شح الإيرادات النفطية لدى الحكومة ينكمش الانفاق الحكومي في مختلف الأنشطة
ويحدث انكماش في الاقتصاد واضح المعالم والأثر ،
ثم تتدخل السياسة النقدية بجرعات توسعية
تحاول إنقاذ الإنفاق الحكومي المتراجع
وتعيد الأمور الى نصابها في إطار حدود ومستويات روتينية
هي (إدامة الإنفاق الحكومي التشغيلي بحدوده الدنيا ) ،
وكأن نقطة الاستقرار المرغوبة لدى السياسات الاقتصادية المالية والنقدية
هو ان تلغي كل منها أثر الأخرى التوسعي، ليبقى البلد عند مستوى من التخلف المرغوب .
خامسا: الدولة تعتمد إجراءات بوليسية وليست سياسات اقتصادية:
نجد ذلك بوضوح في ثقافة الموظف العراقي وثقافة متخذ القرار الاقتصادي ايضا ،
في كثير من المفاصل التي لا يسع المقام الى سردها
واكتفي بحالة شائعة ،
حيث يطل علينا بين الحين والأخر مسؤولون
يتحدثون عن تهريب النقد الاجنبي من العراق،
ويقترحون المزيد المزيد من الاجراءات البوليسية لمنع الظاهرة ،
يوغلون في التفاصيل ويغرقون بقصص الملاحقات وقصص التعجب
وربما الاعجاب بقدرة المهربين في التحايل واجتياز كل العقبات التي وضعوها ،
وربما التغني ببطولاتهم لانهم مسكوها ومنعوها من الخروج وربما يصبحون ابطال وطنيين .
والحقيقة مختلفة تماما عن تصور هؤلاء الابطال ،
فلا توجد قضية اصلا في المفهوم الاقتصادي ،
ولا داعي للاجراءات البوليسية المتخذة والبطولات الزائفة ،
باختصار شديد ،
(لان النقد الاجنبي يَهْرب من العراق ولا يُهَرب، أيها السادة ) ،
وما تقومون به من اجراءات هو ايضا (بالمقلوب) .
في كل العالم ونحن لسنا بمعزل عنه ،
ولكل دولة ميزان مدفوعات The balance of payments
يحتوي شقين :
الشق الأول : ميزان تجاري Balance of trade،
وهو بالضرورة ولابد
ان يقابل خروج النقد الأجنبي
دخول سلع وخدمات بقيمته ، تدخل الى البلد لتساهم في العرض الكلي ،
وهنالك آليات محكمة
تتمثل بالاستيراد وفق اعتمادات مستندية ،
وسميت مستندية
لان النقد الأجنبي لا يطلق للمصدر الا بمقدار السلع والخدمات المثبتة في مستندات
وتصل الى منفذ الاستلام وتقيد ويتم إشعار المصرف التجاري بالإطلاق.
الشق الثاني: حركة رؤوس الأموال Movement of capital من والى البلد ،
وهي حركة مشروعة ولها أسس نظرية وتحميها قوانين محلية ودولية،
وهي أموال تبحث عن فرص استثمارية مربحة،
وتبرع الدول لإيجاد بيئة جاذبة لها ،
حيث النافذة الواحدة
وتهيئة دراسات جدوى رصينة
وتهيئة الاراضي المخصصة والمخلصة من المشاكل
وتسهيلات لوجستية هائلة
ليأتي المستثمر بأمواله ويستثمر في البلد ،
حيث عندما يكون البلد جاذباً ومربحاً تسجل حركة رؤوس الأموال من الخارج للداخل ،
وعندما يكون البلد (مثل العراق ) طارداً وبيئة الاستثمار سيئة وتتقاذفها أهواء الفاسدين
تهرب رؤوس الأموال ،
اي يهرب النقد الأجنبي من البلد الى الخارج باحثا عن فرص مربحة وآمنة للاستثمار،
بدليل ان العراقيين لديهم استثمارات كبيرة جدا في الخارج
وهي جزء من الناتج القومي الإجمالي (GNP)
الذي ينمو بمعدلات أسرع من (GDP) والفجوة بينهما تتسع ،
ومعظم العراقيين يرغبون في الاستثمار في العراق
ويتحسرون على عدم تمكنهم من ذلك
لان العراق طارد أيها السادة ،
فالقصة إذن ليس تهريب بل هو هروب ،
ويضطر صاحبه الى تهريبه
لأنكم وضعتم عراقيل أمام انسيابية حركة رؤوس الأموال بشكل طبيعي
تضطره الى التحايل لكي يجتازها ،
وعلية فأنكم تؤدون واجبا غير مقدس لأنه بالمقلوب ،
الواجب المقدس
هو ان تعرفوا مصادر الاموال التي بحوزة الناس ،
هل جاءت من مصادر سليمة ام لا ،
قبل ان تمنعوا خروجها ودخولها ،
الواجب المقدس
هو ان تقلبوا المعادلة ،
حسنوا بيئة الأعمال
هذا هو واجبكم البيتي،
مكنوا المختصين من إدارة هيئات الاستثمار
واعملوا على خلق حواضن للمستثمرين ،
سوف يتدفق النقد الأجنبي من الخارج للداخل
ويحقن في دورة الدخل والإنتاج المحلية وتحصل التنمية .
أشياء كثيرة أخرى عزيزي القارئ الكريم هي بالمقلوب
في اقتصاد بوصلته لدى المختصين
ولكن لا احد يطلبها ،
ويتهافت عليه الآخرين تهافت الدبابير على سلة التمر.
(*) مستشار إقتصادي في هيئة المستشارين في الامانة العامة لمجلس الوزراء
حقوق النشر محفوظة لشبكة الإقتصاديين العراقيين.
يسمح بالاقتباس واعادة النشر بشرط الاشارة الى المصدر
http://iraqieconomists.net/ar/2015/05/25//
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق