عبدالأميرمكلف البدران
جميل جداً أن يستهل الدستور الدائم بآية تكريم بني آدم، والاجمل أن تصاغ نصوص مواد الباب الاول منه بما يؤكد عدم جواز سن قانون يتعارض مع احكام الاسلام، ومع مبادئ الديمقراطية،وهو تأكيد دقيق بتحقيق مبادئ العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات أمام القانون، في هذه الدراسة التحليلية احاول المساهمة ولو بشكل بسيط في إصلاح النظام الوظيفي في العراق الذي لايزال يعتمد الاسس القديمة التي وضعتها لجنة اعداد الملاك برئاسة توفيق السويدي سنة 1927.
لمحة تأريخية:
عند تسلم الحكومة العراقية سلطاتها بعد الحرب العالمية الاولى، لم يكن هناك قانون ينظم شؤون خدمة الموظفين، بل صدر بيان اجاز العمل بالقوانين الاجنبية السارية قبل الاستقلال،
وفي عام 1931 صدر اول قانون خدمة مدنية برقم (103) ووضع موضع التنفيذ في 1/1/1932، واستمر العمل به حتى صدور ثاني قانون سنة 1939
وفي 1/6/1956، صدر ثالث قانون خدمة مدنية وادخل تعديلات مهمة في أسس تحديد الرواتب ومنح العلاوات السنوية والترفيع من درجة وظيفية الى اخرى،
وفي سنة 1960 إعتمدت الاسس السابقة مع احداث تطورات مهمة في تصنيف الدرجات الوظيفية وتحديد الرواتب والعلاوات السنوية والمخصصات الزوجية وغلاء المعيشة وطريقة انتقاء الموظفين وتنظيم الملاكات الوظيفية لدوائر الدولة ...
وفي ليلة 13/14 تموز عام 1964 أصدرت حكومة (عبد السلام عارف) قرارات التأميم التي اشتملت تأميم (30) شركة اهلية بما فيها بعض الافران والمخابز، والمطاحن الاهلية الصغيرة،
وعدت تلك القرارات في حينها (بأنها متسرعة، وغير عملية، ولا تتماشى مع طبيعة السلطة التنفيذية، وغير دستورية، ثم خضع العاملون في الشركات المؤممة الى أحكام قواعد الخدمة في المؤسسات العامة التي صدرت في 1964-12-21 ووضعت قيد التنفيذ في 1965-4-1،
وفي عهد النظام المخلوع أممت المدارس والجامعات الاهلية ودور العبادة ومؤسسات الصحافة والرأي وغيرها وسادت فوضى تشريعات الخدمة وتنوعت صيغها وخضع بعض تلك المؤسسات لاحكام أكثر من قانون أو نظام خدمة مثل قواعد الخدمة والاستخدام في دار الجماهير للصحافة، قانون المؤسسة العامة للصحافة وغيرها ..
وبعد دخول النظام المخلوع الحرب مع ايران (1980-1988) ومن ثم غزوه الكويت التي ساعدته في تمويل حروبه وتعرض العراق الى قرارات مجلس الامن الدولي في 1990-8-2 ومابعده ... شلت فوضى التشريع اوضاع موظفي الخدمة في ظل الحصار والحياة المعيشية وفتحت ابواب الفساد المالي والاداري على مصاريعها...
وما زاد الطين بلة في سوء تشريعات الخدمة الوظيفية الـ(100) أمر التي أصدرها الحاكم المدني التي انتهكت حرمة التشريع الوظيفي وضياع قدرة المشرع وجعلته يتخبط خبط عشواء في إصدار القوانين بعد التغيير في 9/4/2003م ...
وجعلت ثروات الشعب تصب في جيوب المفسدين مالياً وادارياً في الوقت الذي بقي الكادر الوظيفي يعاني الامرين من مطرقة التشريع وسندان تدهور مبادئ العدالة الاجتماعية والمساواة التي نص عليها الدستور الدائم.
تسعير الشهادة:
تسعير الشهادة:
اعتمد المشرع العراقي المبادئ التي وضعتها اللجنة المشكلة برئاسة توفيق السويدي سنة 1927 التي أخذت بمبدأ تسعير الشهادة (وليس الوظيفة) وعندما صدر القانون (103) حددت رواتب طالبي الدخول في الخدمة الوظيفية على النحو الاتي: ((شهادة الدراسة الابتدائية (5) دنانير، المتوسطة (6) دنانير، الثانوية (8) دنانير، الجامعية (18)دينارا، وحملة الدكتوراه (30) دينارا)) ولم تبدل هذه الأسس الا برفع الحدود الدنيا والعليا في رواتب حملة الشهادات بأنواعها المذكورة حتى يومنا هذا.
تصنيف الوظائف:
اعتمدت تشريعات الخدمة المدنية تصنيف الوظائف على النحو الاتي:
-1الوظائف العليا (أو الخاصة) من درجة وكيل وزارة نزولاً الى درجة مدون قانوني.
-2وظائف الخدمة العامة في الوزارات والدوائر الرسمية.
-3وظائف الخدمة في المؤسسات والمصالح والشركات والمصارف العامة .
ويعبر عن هذا التصنيف في معايير التنظيم الداخلي بالمثلث الاتي:
الإدارة العليا
الإدارة التنفيذية
الإدارة المباشرة
شكل يبين أعماق العمل الإداري
مجلس الخدمة العامة:
منذ تطبيق قانون تطهير الجهاز الحكومي رقم(2) لسنة 1958، ولغاية تعديل القانون المذكور بالقانون رقم (48) لسنة 1963، رقم (13) لسنة 1964 كانت صلاحية مجلس الخدمة العامة في ما يخص التعيين موزعة بين مجلس الوزراء والوزير المختص حيث كان انتقاء الموظف منوطا بجهات ثلاث هي مجلس الوزراء، ومجلس الخدمة، والوزير المختص، أي أن هذه الصلاحية كانت قد انيطت بمجلس الوزراء والوزير المختص كل حسب اختصاصه ازدواجاً مع صلاحية مجلس الخدمة العامة بذلك.
أي الوزير المختص كان له ان يفاتح مجلس الخدمة العامة لتعيين أي موظف حسب صلاحية المجلس المقررة بقانون الخدمة المدنية، كما كان له خلال الفترة المذكورة ممارسة صلاحية التعيين من قبله أو من قبل مجلس الوزراء بمقتضى قوانين الإدارة المركزية..
وهذه الإجراءات تتنافى مع مبادئ اللامركزية الإدارية « الفدرالية « بعد التغيير، فضلاً عن الأخذ والرد والمفاتحات بين المجلس والجهة طالبة التعيين وفي كثير من الأحيان تكون بيروقراطية خانقة ومعطلة للتنمية الإدارية.
تحولات الواقع الوظيفي:
تحولات الواقع الوظيفي:
وإذ نؤكد على أن تشريعات الخدمة العامة في العهود البائدة لم تعد صالحة التطبيق بعد التغيير فأن هذا التأكيد مبني على جملة من العوامل منها تهرئ تلك التشريعات بسبب تقادم الزمن عليها، والتشوهات التي أفقدتها وظائفها، وفاعلية أهدافها بسبب كثرة التعديلات التي أجريت عليها خلال العقود الماضية هذا من جهة،
ولأن الدستور الدائم قد خلق واقعاً جديداً لم تعد تلك التشريعات البالية، ولا حتى التشريعات التي جرت بعد التغيير في 2003-4-9 م، والتي اعتمدت مبادئ أوامر بريمر، مجزية لاستيعاب تحولات النظام الوظيفي في جمهورية العراق الاتحادية من جهة اخرى..
نظراً لكون هذه التحولاًت قد فرضت واقعاً متطوراً في هيكلة الملاك الدائم الذي انشعب الى ملاك دائم لوظائف المؤسسات المدنية والدوائر التابعة للحكومة الاتحادية، والملاكات الدائمة بوظائف مؤسسات ودوائر الحكومات المحلية أو الاقاليم، فضلاً عن التحولات في الهيكلة الاقتصادية باتجاه الخصخصة (Privatiation) وكذلك التحولات في مضمون ومحتوى وطبيعة اداء الوظيفة العامة، والذي لم يعد مجزياً فيها مبدأ تسعير الشهادة الذي كان معمولاً به لأكثر من سبعة عقود خلت (1931-2011م).
فقد كان راتب الموظف ولايزال يحدد عند التعيين لاول مرة على اساس الشهادة بغض النظر عن تفاصيل مكونات طبيعة، واختصاص أو ظروف عمل وتعقيدات الواجبات الرئيسية والصلاحيات، ومخاطر الوظيفة والمؤهلات المطلوب توفرها في من سيشغل الوظيفة ...
أما بعد زوال النظام فقد ضربت المحاصصة، والمحسوبية، والرشوة اطنابها في مفاصل اجهزة الدولة ومؤسساتها وببساطة نستطيع أن نثبت عقم مبدأ تسعير الشهادة ..
أما التدرج الوظيفي العمودي فقد تأكل هو الاخر بسبب سياسات النظام المخلوع الخاطئة سابقا وبسبب فوضى التشريع المعتمد على نظرية (البيضة والدجاجة)، او كما يشار اليها بنظرية (جدل الاوليات في بناء الدولة أولاً أو بناء المجتمع) فكانت قمة الهرم الوظيفي (الادارة لعليا) دائماً محجوزة لاعضاء حزب البعث بغض النظر عن شهاداتهم ...
ثم حولت تلك القمة في ظروف المحاصصة السياسية بالحجز لاعضاء الاحزاب المشاركة في العملية السياسية أو اقاربهم اوالمحسوبين عليهم بغض النظر عن الشهادة وكفاءة الاداة
وبأستطاعة مثل هؤلاء الموظفين القفز بسهولة الى مراكز القيادة دون استحقاق وكانت كل هذه العوامل والاسباب معاولاً حادة هدمت ماتبقى من قييم وأخلاقيات العمل الوظيفي،
وأكاد أجزم ان الموظف الجيد في سلوكه وكفاءته وأخلاقه يحارب الآن لأنه غير منتمي أو متلزم بقواعد الفساد الاداري والمالي التي استشرت في مفاصل الدولة من الإدارة العليا فيها الى الفراشين والحراس واقارب موظفي السلطة...
خصائص الوظيفة العامة:
خصائص الوظيفة العامة:
أرى من المفيد هنا إيجاز تجارب بعض الدول للاقتداء بها في بناء نظام وظيفي متطور ويلاءم متطلبات التغيير ويحافظ على التكوين الاجتماعي والثقافي، والانماء الاقتصادي الذي نسعى الى تحقيقه في صياغة النظام الوظيفي في العراق الجديد.
ففي المملكة المتحدة على سبيل المثال نجد ان ابرز السمات الاساسية للنظام الوظيفي هي الاهمية الكبيرة التي اعطيت لاستمرارية الوظيفة في الادارة والتي كان من مظاهرها انخراط الموظفين بغالبيتهم في سلك الخدمة العامة مباشرة بعد انتهاء دراساتهم النظرية والتطبيقية (الفنية) وبقاءهم فيها حتى سن التقاعد وندرة حالات ترك الوظيفة التي غالباً ما كانت تشمل المرأة بسبب زواجها او رغبتها بالاهتمام بتربية اطفالها.
ثم تطورت السياسة العامة المتبعة في الخدمة المدنية الى مايؤمن احتياجات الادارة المتزايدة الى الاختصاصيين أو الاخصائيين، والخبراء والاقتصادييين، فنجم على هذا الاساس السعي للتعيين من خارج الادارة باعمال مختلفة كموظفين دائميين،
وهذا يعني عدم تأثر الوظيفة العامة بتبدل الاحزاب في العملية السياسية. ولن تؤثر تلك العملية على هيكلية الوظيفة العامة ..
بينما تنفرد الخدمة المدنية في فرنسا ببعض السمات التي تميزها عن غيرها من أنظمة الخدمة المدنية الاوربية،
ولعل اولى تلك السمات انفرادها بجميع الامور العائدة لاختيار الموظفين واعدادهم في عملية واحدة هي امور تتم بصورة منفصلة في الانظمة الاخرى في أوربا..
ومن خصائص الخدمة المدنية في فرنسا أنها تخضع لقانون مكتوب يعرف بـ(نظام الموظفين العام) ويتضمن مجمل القواعد والاحكام المتصلة بالوظيفة العامة ويؤمن التوازن العادل بين مايلتزم به الموظف من واجبات، وما يتمتع به من حقوق،
أما في الولايات المتحدة الامريكية فأن الخدمة المدنية العامة فأنها تضم قسمين اساسين
احدهما يقوم على إعتماد الاختيار المبني على الكفاءة، ونظام التنصيف الوظيفي ..
أما الثاني فانه يخرج عن اطار الاحكام المتصلة بالمبدأيين،
والسمة الاخرى هي أن الموظف الامريكي يمكن في أي وقت انتفاء الحاجة الى خدماته، ولا يصار الى نقله الى وظيفة اخرى (كما هو الحال في أوربا) ولهذا السبب لازالت الخدمة العامة تعاني مشاكل (نظام الاسلاب) الذي تفترضه الديمقراطية الامريكية جراء تبدل الحزب الحاكم في ضوء نتائج الانتخابات.
وقد نجد في التجربة السويسرية السمات الاكثر قبولاً لبناء نظام وظيفي يوازن بين الحقوق والواجبات..
ففي هذا البلد الفدرالي الواقع على ملتقى حضارات ثلاث والمتميز بها، وباللغات الاربع، والديانتين التي يدين بها الغربيون ..
يتم التوظيف على مبدأ حرية الاختيار والتعيين، وفقاً للمؤهلات المتوفرة في اطار الشروط التي يفرضها نظام الموظفين الذي أوجب ان يكون المرشح من التابعية السويسرية ومن ذوي السيرة الحسنة، ويتمتع بحقوقه المدنية والوطنية،
مع امكانية تجاوز الشرط الاول بقرار من المجلس الفدرالي الذي يستطيع ان يعطي صفة الموظف لغير السويسري، ولا يكون ذلك الا بصورة استثنائية،
كما نص النظام على الشروط الخاصة بالتعيين لجهة السن والمؤهلات واوجب في بعض الحالات التزام الموظف بقبول وظائف فدرالية اخرى (التنفيذ والاحترام، والاخلاص لجملة من الواجبات الوظيفية، والحفاظ على سرية المعلومات ( الاعمال) والتعليمات وسرية المهنة حتى بعد انتهاء خدمة الموظف)،
ويتمتع الموظف السويسري بحقوق مادية، مثل الراتب، والزيادات السنوية، والترقية والتقاعد، ومعاش الاعتلال، والعطل، وتعويض الضرر، وحقوق غير مادية مثل الاقامة في مقر الوظيفة، والعطل، والاجازة، وشهادة الخدمة،
وفي ذات الوقت يتعرض للتأنيب، والغرامة، وقطع التسهيلات وعقوبات مسلكية اخرى، والنقل التأديبي، والايقاف المؤقت (سحب اليد) والحرمان من الزيادات وغيرها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق