الخميس، 30 أغسطس 2012

العلاقات الزبونية: طرق غزو المناصب

العلاقات الزبونية: طرق غزو المناصب


Abderrahim KHALISSE ، في 3 مارس 2011

العلاقات الزبونية
بحث في طرق غزو المناصب الإدارية والسياسية المحلية بالمغرب *
عبد الرحيم خالص
باحث في علم السياسة، كلية الحقوق-مراكش.
khalisseabderrahim@yahoo.fr


تعد العلاقات الزبونية أهم عامل حاسم في تحديد مكانة الأعيان داخل المجتمع المحلي، ولاسيما في تحديد موقعهم من الحراك الاجتماعي، بالنسبة للسلطة التي تسعى النخبة المحلية بكل ما أوتيت من قوة ووسائل، لتجد لها موقع قدم داخلها؛

والتمكن بالتالي من التأثير في مراكز القرار المحلي، بما يخدم مصالحها الإستراتيجية، كيفما كان الثمن، وبأي طرق كانت.

وتلعب هذه العلاقات مكانة مهمة في إستراتيجية النخبة المحلية المغربية كوسيلة فعالة في تحصيل ما لا يحصل من المناصب والوظائف عن طريق الكفاءة والاستحقاق (أولا).

بهذه الطرق وغيرها تنجح النخبة المحلية في اعتلاء المناصب الإدارية كما السياسية دون عناء المساندة الشرعية أو المشروعاتية (ثانيا).

تلك، هي الظاهرة المستفحلة بطريقة ملفتة للانتباه في مغرب اليوم، رغم محاولات التوعية والتثقيف الرسمية وغير الرسمية، من طرف أحزاب وجمعيات ومؤسسات الكفاءة والاستحقاق الحكومية وغير الحكومية.

إنها معضلة بمثابة السوسة في العمود الفقري لمراكز القرار المحلية خصوصا !!!

وإذ نثيرها في هذا المقال، إنما هدفنا 
ينم عن محاولة فهم ميكانيزمات عمل هذه العلاقات،
وكيف يمكن –إلى حد ما- من التقعيد لها بقواعد وقوانين لعلنا نحُدُّ من خطورتها من جهة،
ونُشرِّع لها بطرق مشروعة لننقص من حدة تواجدها وممارساتها المستفحلة من جهة أخرى.
أولا- العلاقات الزبونية ومكانتها في إستراتيجية النخبة المحلية بالمغرب

تفترض العلاقات الزبونية كأية علاقات أخرى، في طبيعتها، طرفين على الأقل: هناك "الزبون" من جهة، والقطب أو "الباترون" من جهة ثانية. هذا الأخير هو ما نلقبه بـ "العين المحلي" في موضوعنا هذا.
وفي بعض الأحيان نجد طرفا ثالثا يمثل "الوسيط" بين الطرفين الرئيسيين نظرا لما يتمتع به من معرفة بالطرفين، وما يُعْرَفُ فيه من مصداقية وشهرة ومعرفة بالسوق السياسية المحلية.
وما يهمنا هنا خاصة، هو مدى تسهيله لعملية تبادل المصالح التي تتم بين العين المحلي والزبون.
لكن إذا كان العين المحلي معروفا ومحددا، فمن يكون الزبون وكيف يتحدد؟
إن إنشاء العلاقات الزبونية وتأسيس "شبكات المصالح المستقلة"، يفترض قبل ذلك تحديد الطرف الزبون. 
هذا الأخير اي الزبون يجب:
- أن يمتلك موارد خاصة مختلفة عن موارد العين المحلي.
- أن تكون موارد الزبون بالفعل من الموارد التي يحتاجها العين المحلي.
- أن تكون موارد قابلة للتبادل.
- أن يكون لها تأثير على السلطة.
- وأن تحقق مصالح سياسية من الدرجة الأولى للعين المحلي.

وتجدر الإشارة أن الزبون لا يكون دائما بالنسبة للعين المحلي رجل سلطة، بل يبدأ العين المحلي بناء شبكات تمتد مرة عموديا، ومرة أخرى أفقيا (في المدينة والقرية على السواء).


- العلاقات الأفقية الأصلية: 
تتم أولا على مستوى رؤساء الأسر (الذين هم أدنى منه مرتبة) حيث تبدأ عملية الإحاطة عن طريق تقديم مجموعة من الخدمات المادية (كالحرث وكراء الآلات الفلاحية…) أو المعنوية (كالحماية ضد "تعسفات" المخزن مثلا) كمقابل لولائهم وولاء ذويهم.
على هذا المستوى تتأسس أولى العلاقات الزبونية كقاعدة أولى في سلم شبكة المصالح المستقلة للعين المحلي.
وثانيا تتم على مستوى الأعيان المحلية المتوفرة على نفس رتبة العين المحلي، حيث تكون المصالح متبادلة انطلاقا من تحالفات لكسب عدد كبير من المؤيدين والأتباع كتمهيد لعلاقات عمودية أكثر قوة وتعمقا…
- العلاقات العمودية:
تنطلق من المستوى الأفقي، حيث العين المحلي قد كسب ثقة رؤساء الأسر، ودعم الأعيان المحليين المماثلين ليتوجه نحو القمة.
وتجدر الإشارة أن العملية الأولى من العلاقات الأفقية غالبا ما لا تكون مدروسة جيدا، أي انتقائية وتفضيلية، بل غالبا ما تكون اعتباطية نظرا للمعرفة السابقة بالمحيط الأسري والعشائري أو الشعبي الذي يتواجد به العين المحلي.
بينما في العلاقات العمودية فاكتساب وجلب المؤيدين والزبناء تكون دوما انتقائية، وغالبا ما تُوَجَّهُ نحو رجال السلطة على المستوى المحلي بخصوص تنظيمات سياسية أو إدارية معينة كالأحزاب السياسية أو النقابات والجمعيات لتسهيل عملية الإحاطة والمراقبة بالوسط الاجتماعي الذي يتواجد فيه.
وعملية الانتقاء على هذا المستوى في اتجاه القمة، تمر عبر تسلسل هرمي يقدم لشبكة المصالح المستقلة للعين المحلي وضعية سهلة للاختراق الإداري والسياسي كما سنرى فيما بعد.

كما أن نفس العملية الانتقائية، تتكرر على مستوى كل علاقة أفقية ثانوية من مراحل الارتقاء العمودي للعلاقات الزبونية

كما يشرح الشكل التالي:

نلاحظ كيف يستطيع A، أن يكسب ولاء رؤساء الأسر رقم 1، كما أن تحالفه مع B الذي يسيطر على رؤساء الأسر 2 يقوي من علاقاتهما الزبونية على المستوى الأفقي لتوجيه مطالبهما إلى D وE التي بدورها، عبر علاقات أفقية ثانوية، وبوسائلهما الخاصة يمكنهما الوصول إلى المركز والتأثير في اختيارات وقرارات F.

أما اختيار A لـ B أو C فلم يكن مجرد اعتباط في العلاقات، بل يرجع إلى مدى تأثيرات B وC على مستوى الجماعة التي ينتمي إليها، وأيضا حسب الموارد التي يملكها كل فاعل (B أو C).

ونفس الشيء مع D وE وF. إن العلاقات الزبونية الأفقية خاصة، بقدر ما تتقوى مكاسبها وتزداد مردوديتها، إلا ونجد العين المحلي مطالب بتقديم المزيد من الخدمات لرؤساء الأسر والعشائر.

من ذلك بناء مرافق عمومية كالمستشفيات والمدارس، أو مد المجتمع المحلي بالماء والكهرباء، أو بناء القناطر (وهذا على المستوى القروي)، كما قد يذهب به الأمر إلى ضرورة صرف مكافئات مادية كالمال، وعينية كتوظيف بعض أبناء رؤساء الأسر.
 وقد لا تتعداها إلى أن تكون مجرد حماية لها، والحفاظ على ممتلكاتها.
 وهذه الخدمات الموجهة للمجتمع المحلي غالبا ما تختلف من زبون إلى آخر، حسب مكانة وتأثيرات كل زبون لصالح العين المحلي داخل شبكته المستقلة.
بعدما تتحدد ملامح العلاقات الزبونية الأفقية للعين المحلي، يسهل على هذا الأخير الوصول عبر زبنائه إلى بعض مراكز القرار المحلية سواء على المستوى الإداري أو السياسي.
غير أن وسائله في ذلك تختلف تماما عن الوسائل الأولى لكسب الأتباع على المستوى الأفقي، إذ تتحول العلاقة إلى علاقات عمودية غير زبونية كما سنرى في النقطة أسفله:

ثانيا- النخبة المحلية وغزو المناصب الإدارية والسياسية المحلية بالمغرب

كيف تغزو النخبة المحلية المناصب الإدارية والسياسية للسلطة المحلية؟

نجد في العديد من المجتمعات ذات البنى الاقتصادية الضعيفة والدخل الفردي المنخفض، إن لم يكن في بعض الحالات منعدما، انتشار معدلات الفقر بشكل مرتفع ومروع، بحيث تبرز الفروقات الاجتماعية بين الغنى الفاحش والفقر المدقع.

فروقات تدفع البعض إلى محاولة التغلب عليها عبر ترشيح نفسه انتخابيا لتولي منصب إداري أو سياسي، حيث ينجح في الوصول إلى ذلك.

وهنا تكمن الإشكالية المطروحة عبر السؤال التالي:

 كيف استطاع المرشح المحلي (الفقير) الفوز بمنصب سياسي محلي؟

في كتابه عن "صناعة النخب"، تحدث عبد الرحيم العطري عن النخبة السياسية المتوسطة ذات الأصول الاجتماعية الفقيرة التي تصل إلى السلطة المحلية بطرق مشروعة، ولكن من دون كفاءة،
وهو ما يطرح السؤال: 

كيف ذلك؟

 كما يضيف في نفس السياق، الأستاذ عبد الله حمودي، أن الأعيان المحليين الذين لا يستطيعون عبر العلاقات الزبونية، الوصول إلى المناصب السياسية المحلية المؤثرة في اتخاذ القرار، هم الذين يعمدون إلى صناعة أمثال هذه النخبة.

وذلك لتسهيل عملية التحكم والتوجيه حسب شبكة المصالح المستقلة للعين المحلي. هكذا يستطيع العين المحلي خرق السلطة المحلية في شخص ممثلها.

وذلك عن طريق تدعيم ترتيبه ماديا ومعنويا، عن طريق توفير جميع الإمكانيات لحملته الانتخابية ثم عن طريق المؤيدين الذين اكتسبهم عبر علاقاته الزبونية على مستوى الجماعة المحلية التي ينتمي إليها.

يعد المنصب الإداري من أهم القنوات للوصول إلى السلطة واتخاذ القرارات الإدارية والسياسية المحلية،
غير أن ما بين المنصب الإداري ومراكز اتخاذ القرار، مراحل منها ما يكتسب بطرق غير شرعية كـ "الزبونية" و"الاختراق"، ومنها ما يكتسب بطرق شرعية كـ "التعيين" (للكفاءة).

أما "الاختراق" أو ما يصطلح عليه "بغزو للمناصب الإدارية"، فيعتبر تدعيما لشخصية لا تقل معرفة وشهرة عن العين المحلي.
 والتوسط له لدى الدوائر العليا في الإدارة قصد تعيينه في منصب إداري أو ترقيته في سلم الوظيفة الإدارية أو الوساطة عن طريق صلات وعلاقات بأشخاص لهم مواقع نافذة لصالح أشخاص في مرحلة البدء، هي أول خطوة في اختراق المناصب الإدارية المحلية في انتظار المرحلة الثانية وهي المهمة. حيث، خلال هذه الأخيرة، يتم تحويل الوساطة إلى موارد لصالح العين المحلي.

لهذا نجد في غالب الأحيان، عددا مهما من أعضاء النخبة الإدارية المحلية أو السياسية –كما سنرى فيما بعد- لهم علاقات وشراكات إما تجارية أو فلاحية أو صناعية مع الأعيان المحليين، ويرتبطون بشكل آلي بهؤلاء.

وإذا كانت للترقية داخل المناصب الإدارية مقاييس معينة كالكفاءة والاستقامة والمردودية والاستحقاق والأقدمية داخل ما يسمى بالترقية الداخلية العادية، فإن وجها آخر ينكشف بشكل غير عادي لهذه الترقية، وتحددها الاعتبارات السابقة كالزبونية والوساطة والاختراق.

هذه الأخيرة تطفح إلى السطح عند كل ولاية تشريعية جديدة، وبخاصة فيما يتعلق بالمواقع الإدارية العليا كالدواوين الوزارية، والمستشارين، والمديرين المركزيين، والمصالح المركزية… وهكذا إلى أن نصل إلى أدنى المراكز الإدارية على الصعيدين الجهوي والمحلي[1].

والملاحظ -حسب عبد الرحيم العطري أيضا- أنه "لكي تتولى مهمة ليس من الضروري أن تكون أهلا لها، ولكن يجب أن تكون أهلا للشخص الذي سيكون هو قناة وصولك إلى تلك المهمة، فعامل الكفاءة يظل ثانويا، لأن المحدد الطبيعي لتحصيل المنصب أو الوظيفة العالية الكعب هو نظام الولاءات".[2]

فهل نفس النهج يسري على المناصب السياسية المحلية؟

في كتابها، عن "الوزراء في النظام السياسي المغربي"، أكدت الأستاذة أمينة المسعودي أنه إضافة إلى الشروط الضرورية لدخول الشخص مغامرة "الاستوزار"[3] داخل الحياة السياسية المغربية، يوجد هناك واقعا آخر يحتم عليه مجموعة من الشروط خارج الحدود القانونية والسياسية والمتعلقة أساسا "بالمكانة" الاجتماعية والاقتصادية للمرشح  وتقصد بها خصوصا: "السن العريق الأصل" و "المال" فضلا عن الرضى المخزني.

أما الثقافة فلا تعترف بالمكانة الاجتماعية والاقتصادية إلا بنسبة نادرة جدا للقليل ممن وصلوا بطرق أخرى كالاستقطاب السياسي أو لأهداف أخرى تتعلق أساسا هنا بالسلطة و"المخزن"[4].

كما يتم غزو المناصب الإدارية، يتم أيضا غزو المناصب السياسية، غير أن هذه الأخيرة تعتمد على وسيلتين أساسيتين،
 أولها: عن طريق تسلق المراتب داخل التنظيم الحزبي أو النقابي؛
 وثانيها: عن طريق القناة الانتخابية.

يشكل الانضمام إلى تنظيم حزبي أو نقابي معين من القنوات الأساسية في كسب أتباع جدد و ولاءات جديدة على المستوى السياسي المحلي،
ويعود تفضيل الفعاليات المحلية لهذه القنوات لما توفره من موارد سياسية مادية ومعنوية تسهل من تسلق واحتلال المراتب الرسمية داخل الأجهزة السياسية المحلية.

خلال هذه المرحلة من الانخراط في الأحزاب أو النقابات يتدخل العين المحلي بما اكتسبه من علاقات زبونية و وساطات إلى المبادرة بالفعل من وراء الستار،
أولا بتمويل نشاطات المرشح للمناصب الحزبية أو النقابية،
وثانيا على مساعدته على احتلال مواقع المسؤولية داخل تلك الأجهزة ليسهل عملية تنفيذ تعليماته وتوجيهاته،
وثالثا بمساعدته على الانتصار على مماثليه من المرشحين للمناصب السياسية في الحزب أو النقابة؛

وبخاصة أمام طرفين أساسيين هما المناضل والوصولي.

الأول دون علاقات زبونية و وساطات، له من الرأسمال الرمزي من النضال لسنوات عددية داخل هذه الأجهزة ما يؤهله لاحتلال مواقع المسؤولية،
والثاني لما له من حنكة سياسية قد تحتمل الحيل والمراوغات والإيديولوجيات للوصول إلى أهدافه المبتغاة عن طريق الرشوة مثلا، حتى يتمكن من احتلال مواقع المسؤولية بدوره.

أمام هذين الطرفين تصبح مهمة المرشح المدفوع به من طرف العين المحلي أصعب مما يتصور أمام أمثال هؤلاء الخصوم.
 لذلك، ولكسب المزيد من الدعم والثقة لتسهيل عملية الانتصار على "أعدائه"، يتوجب على المرشح البرهنة على وفائه وطاعته سواء للعين المحلي بذاته أو لوسطائه وزبنائه، وتقديم أقصى ما يمكن من الخدمات نزولا عند مطالب المجتمع المحلي.

في هذه المرحلة يبدأ دور المرشح للمنصب السياسي، بمحاولة ربط علاقات خاصة ومتميزة مع أحد أو بعض أقطاب التنظيم السياسي ممن هم أعلى مرتبة منه.

فإذا كان العين المحلي وأتباعه قاعدة لتمويل الناخب المحلي، وتدعيمه ماديا، وتوفير جميع متطلبات الاختراق، فإن على الناخب المحلي بدوره توفير قاعدة من أعلى لتعزيز مواقعه داخل التنظيم السياسي المحلي من جهة، وإقصاء منافسيه من جهة أخرى، قبل أن تكون كل تلك الخطوات اعترافا وخدمة للعين المحلي الذي يمرر وقتها ما يراه من القرارات في خدمة شبكة المصالح المستقلة له، ولمجتمعه المحلي الذي ينتمي إليه.

وذلك لتعزيز سلطته وقوته وسيطرته على المحيط من حوله.
أما الوسائل التي يستعملها أيضا العين المحلي لتعزيز مكانة الناخب المحلي داخل الانتخابات،
فنجد المال الذي من خلاله يحاول كسب الانتخابات أمام أي مواجهة يراها قد تعصف بأحلامه وأهدافه وشبكة مصالحه المستقلة.
مثل ذلك:
+ شراء خدمات بعض الأفراد الذين يتولون عملية الدعاية الانتخابية
+ شراء الأصوات
+ الولائم و"الزرود"
+ تسخير وسائل للنقل والاتصالات
+ طبع الملصقات الانتخابية…
وحسب أقفلي يمكن تقسيم أعضاء النخبة على أساس العلاقات الزبونية في غزو المناصب الإدارية والسياسية إلى:
- فئة دنيا: لا يتعدى نفوذها القدرة على طرق باب الشيخ أو المقدم.
- فئة متوسطة: قادرة على النفوذ لدى بعض مراكز القرار المحلية الأكثر أهمية كالقائد ورئيس الدائرة ورئيس مصلحة من المصالح الإدارية أو السياسية المحلية.
- فئة ثالثة: يمكن أن نعتبرها "فئة عليا" نظرا لسهولة خرقها لكل المراحل، والوصول إلى المراكز العليا المحلية كالمجلس الإقليمي، وعامل الإقليم أو الوصول إلى الدوائر العليا الوزارية والمركزية عامة.

إذا كانت للعلاقات الزبونية –بالفعل- مكانة في إستراتيجية النخبة المحلية لبناء شبكة المصالح المستقلة للعين المحلي، وغيرها أيضا، كتسلق وغزو المناصب الإدارية والسياسية من طرف ممثليهم أو ما أطلقنا عليهم اسم "النخبة المحلية بالنيابة"، فإن ذلك يتم بطرق غير مشروعة وغير قانونية، وإن أضحت مما أصبح يسلم بفاعليته في التأثير على مراكز القرار، محلية كانت أو مركزية.

غير أن سَلْك هذه السُّبُل لا ينسحب على جل النخبة المحلية، بل هناك البعض من الأعيان المحليين الذين يسلكون طرقا مشروعة لكسب منصب إداري أو سياسي، وبالتالي امتلاك حظوظ للتأثير في مراكز القرار المحلي والمركزي بشكل قانوني.
ويعمد الأعيان المحليين في ذلك إلى الولوج السليم عبر بوابة الانتخابات عبر الانتماء الحزبي بأنفسهم، نظرا لامتلاكهم لصفات مميزة ومتعددة تجعلهم أهلا لتحمل المسؤولية، وتولي الشؤون العامة المحلية بكل مشروعية داخل المجتمع المحلي.

ثالثا: طرق للغزو خارج السياق:

ظاهرة الاستقطاب السياسي إذا كانت طرق الوصول إلى القمة –حسب كل ما رأينا سابقا- لا تتم إلا بمبادرة من النخبة المحلية إما عن طريق ممثليهم، وإما عن طريق العين المحلي نفسه؛ فمن الملاحظ أن البعض الآخر من النخبة المحلية تصل إلى مناصب إدارية وسياسية دون علاقات زبونية، ودون أي تحايل كيفما كان للوصول إلى القمة.  

إنها قنوات خارج السياق المعروف داخل المجتمع المحلي المغربي.
إذ في هذه الحالة، لا تتم المبادرة من طرف النخبة المحلية، بل تأتي المبادرة من السلطة السياسية المحلية ذاتها.
إنها ظاهرة معروفة في مغرب ما قبل الاستقلال وما بعده.
ظاهرة لقبت بـ "الاستقطاب السياسي".

فماذا نقصد بالاستقطاب السياسي؟ 
وماهي المقاييس التي تعتمدها السلطة المحلية في تحديد مستقطبيها؟

إن السؤال،
"كيف يتم استقطاب النخبة المحلية من طرف السلطة؟"، 

يثير ثلاثة نقط أساسية هي كالتالي:
- أن الاستقطاب يتم أولا، باجتذاب فعاليات جديدة لخدمة السلطة المحلية بمنحها مجموعة من الامتيازات كالمناصب أو الإعفاء من الضرائب وغيرها.
- أن الاستقطاب يتم ثانيا، لإسكات بعض النخب التي ترى السلطة في وجودها خارج محيطها، خطرا على مصالحها المحلية وتهديدا لسياساتها، وذلك لما يتمتع به العين المحلي من قوة في التأثير على المجتمع المحلي وتوجيهه لخدمة مآربه ومصالحه الشخصية التي قد تتعارض مع مصالح النخب الحاكمة محليا كـ "رجال السلطة".
– أن المُسْتَقْطَب يفرض نفسه على السلطة المحلية، إذ يعد شخصا كاريزماتيا، يستطيع الحد من ثورات المجتمع المحلي ضد السلطة المحلية.
كما له القدرة على الزعامة والقيادة باسم الدولة ولصالحها دون إثارة أية مشاكل؛ وذلك بسبب ما يتوفر عليه العين المحلي من موارد سياسية واقتصادية يعرف كيف يستثمرها لصالحه، ولصالح المجتمع المحلي.

أما المقاييس التي تعتمدها السلطة المحلية في اختيار مُسْتَقْطَبيها فيمكن اختصارها فيما يلي:

- نفوذ النخبة المحلية وتأثيرها على الأوساط الاجتماعية التي تنتمي إليها.
- قدرتها على التعبئة والاستقطاب بذاتها لإثبات نفوذها على الساحة المحلية.
- المكانة الاجتماعية، والسمعة الأخلاقية، والكفاءة العلمية أو التقنية…
- امتلاكهم لمميزات وصفات كالذكاء، والشجاعة، والقدرة على الزعامة، والقيادة.
- القدرة التواصلية مع المجتمع المحلي، والفصل في بعض النزاعات، وتلبية بعض حاجياتهم.

وغيرها من المقاييس التي لا مجال لذكرها هنا بكل تفصيل…

من هنا تسمح لنا النقط أعلاه بالقول:
أن النخب التي تعمل السلطة المحلية على استقطابها، هي النخبة المحلية التي "تخدم" مصالحها لا أقل ولا أكثر؛ وتستطيع الحفاظ على استقرار المجتمع المحلي، ورفع العديد من الأثقال عن كاهل السلطة المحلية نظرا لما تتمتع به النخبة من مميزات وامتيازات تساعدها على القيام بهذا الدور.

والسلطة المحلية ليست مخيرة في هذا الاختيار، بل مجبرة على "جلب" و"جذب" و"استقطاب" هذه النخب نظرا لـ "نزعتها النفعية" حسب تعبير عبد الله حمودي[5].
ولكن سؤالا آخر يفرض نفسه كما جاء على لسان عبد الله حمودي:
هل يمكن أن نقتصر في تفسير استقطاب النخب، واجتذابها على النزعة النفعية لهذه النخب فقط[6]؟

إن الإجابة صعبة جدا، ولكن هناك سؤال استنكاري جدير بالطرح وهو:
 ألا يمكن أن يُرَدَّ استقطاب النخب بعامل آخر هو "الثقافة" على حد استنتاج ريمي لوفو؟

والثقافة هنا نقصد بها "الثقافة السياسية" السائدة في مرحلة تاريخية لدى النخب الحاكمة باسم المخزن بالمغرب؛ والتي لازال تأثيرها إلى اليوم يعاش، ويلاحظ داخل كل نسق اجتماعي مصغر كالقبيلة والفَخْدْ والدُّوّار… بل وحتى داخل المدن الكبيرة أيضا.

 تلعب ما أسميه مقولات:
"الأعيان قاعدة للاستقرار"،
و"الأعيان ينفرون من التجديد"،
و"الأعيان كلهم خدام"،

قواعد في يد النخبة الحاكمة محليا، والتي تستغلها وتوظفها بشكل يُفْهَمُ من خلالها، أن الأعيان مجرد وسائل وآليات لتحقيق أهداف أخرى.

فإذا كان العين المحلي يمثل للسلطة المحلية بمثابة المريد للشيخ، فإن الثقافة السياسية في هذه النقطة بالذات تلعب دورا مهما؛
إذ توضح وبجلاء موطن الداء في علاقة تتحول من مجرد علاقة فاعلين في "فضاء عمومي محلي" أو "وطني" يجمع أطراف تتفاعل من أجل القضايا المشتركة بينها إلى علاقة تاريخية -حسب عبد الله العروي- يلتقي فيها المحلي (القبيلة، والقرية والمحيط مثلا) بالشمولي (الوطني والمركزي) حيث تنتقل العلاقة من مجال إلى مجال آخر.

من المجال الصوفي -حسب عبد الله حمودي- إلى المجال السياسي (من الشيخ والمريد إلى السلطة وأعيانها، بل مريديها إن صح التعبير).

 تلك هي العلاقة التي تحدد لنا طبيعة الثقافة السياسية التي تحكم دوافع الاستقطاب لدى السلطة المحلية الجديدة؛ وهي محاولة السيطرة على الذين يتواجدون "في كل مكان"، ويعتبرون "قاعدة للاستقرار"، الذين "ينفرون من التجديد"، ويعدون "خداما" للسلطة.

إنها الهيمنة بتعبير ماكس فيبرMax Weber ، التي قد تسمح باستخدام "العنف المشروع" في حالة انقلاب القواعد/ المقولات إلى عكس ما تصوره السلطة.

وآنذاك لن يبقى للثقافة السياسية -حسب لوفو- أي دور، وسنحتكم إلى "النزعة النفعية" فقط حسب عبد الله حمودي.

هكذا يتضح أن "النزعة النفعية" لوحدها، لا تلعب دورا في استقطاب النخبة المحلية، بل "النزعة الفوبية" أيضا: أي الخوف من "الأعيان قاعدة للثورة"، و"الأعيان يحبون التغيير"، و"الأعيان أسياد"، و"الأعيان في مكان واحد" هو السلطة الحاكمة.
وخوفا من وقوع ذلك تعمد السلطة إلى الاستقطاب السياسي.

* سبق نشر هذا المقال بمجلة شؤون استراتيجية, تطوان-المغرب,
أهم المراجع المعتمد والمستأنس بها بالعربية والفرنسية
1 -حماني أقفلي: "السلوك الاجتماعي والسياسي للنخبة المحلية"، الرباط. مركز طارق بن زياد. ط1. أكتوبر
 2002.
2-عبد الرحيم العطري: "صناعة النخبة بالمغرب، المخزن والمال والنسب والمقدس، طرق الوصول إلى القمة". مطبعة النجاح الجديدة، منشورات دفاتر وجهة نظر (9) ط 1. 2006.
3 -عبد الله حمودي: "الشيخ والمريد، النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة". ترجمة عبد المجيد جحفة. دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الثالثة 2003.
4 -مريم كاتيس: "النخب المحلية و اللامركزية بالمغرب". ترجمة محمد حاتمي, وجهة نظر العدد16 صيف 2002 السنة الرابعة. 5 -شوميلييه-جاندو وكورفوازييه: "مدخل إلى علم الاجتماع السياسي". ترجمة د.إسماعيل الغزال. ط 2005م. بيروت لبنان المؤسسة الجامعية المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.
6 -Renaud Du Long: “Les régions, l’état et la société locale”. PUF 1978. 1er Ed. France.
7 -Pierre Birnbaum : “Sur l’étude des élites, dimensions du pouvoir”, 1er Ed 1984 Avril. Paris.
8 -Michèle Alliot-Marie : “La décision politique” PUF 1er Ed, 1983 Avril. Paris.
9 -Jean- Marie Cottert: “Gouverner c’est paraître, réflexions sur la communication politique”, 1er Ed. 1991 septembre. Paris.
10 -Jacques Coene-Huther : « Sociologie des élites ». Ed: Armand Colin/ Sejer, 2004, Paris.
11 -Sylvie Biarez : « Le pouvoir local », Economica, Paris 1989.

12 -G. Guyamard : « Les associations, l’environnement et le système politico-administratif local ». Ed Economica, November, 1982, Paris.

[1] -حماني أقفلي:"السلوك الاجتماعي والسياسي للنخبة المحلية"، ط1. أكتوبر 2002. الرباط. مركز طارق بن زياد. ص 315-316.

[2] -عبد الرحيم العطري:"صناعة النخبة بالمغرب"، المخزن والمال والنسب والمقدس، طرق الوصول إلى القمة، مطبعة النجاح الجديدة، منشورات دفاتر وجهة نظر (9) ط 1. 2006. ص 26.

[3] بمعنى العملية التي من خلالها يتم ترشيح الشخص المعني بالأمر للوزارة وأن يصبح وزيرا.

[4] - وتجدر الإشارة أننا نقصد بالمناصب السياسية المحلية –كما يحددها أقفلي- مراكز القرار داخل الأجهزة السياسية المحلية وخاصة منها الأحزاب والنقابات والجمعيات، وبعض المناصب التمثيلية على الصعيد المحلي كالعضوية في المجالس المحلية المنتخبة.

[5] -عبد الله حمودي ص 56 و57 .

[6] -المرجع السابق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق