مجدي عزالدين حسن
الحوار المتمدن - العدد: 3620 - 2012 / 1 / 27 - 20:24
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
مقدمة:
تمثل نظرية المعرفة Epistemology• أهم مبحث من مباحث الفلسفة بمعناها التقليدي، بجانب مبحثي الوجودOntology والقيمAxiology ، اللذين ترتبط بهما نظرية المعرفة برابطة قوية.
وتكمن أهمية هذا المبحث في أننا لا نستطيع تصور نظرية عن الوجود بدون أن تقوم وتتأسس على تصور نظري للمعرفة لأن " كل ادعاء بالمعرفة لابد أن يتضمن فيما يبدو، تقريرا عما هو موجود وغير موجود، في حين أن أي تقرير عن الواقع هو كذلك ادعاء بالمعرفة، ويصعب بسبب هذه العلاقة المتبادلة أن نعرف إن كان هناك أي معنى لقولنا إن نظرية المعرفة سابقة على نظرية الوجود، أو أن نظرية الوجود هي التي تسبق نظرية المعرفة.
ومع ذلك فقد جرت العادة في تاريخ الفلسفة على القول بأن أحدى هاتين المشكلتين سبقت الأخرى"
و" كذلك الحال فيما يتصل... بالاكسيولوجيا أو( نظرية القيم ) إذ أن كل تصور لطبيعة الأحكام الأخلاقية والجمالية يستند بدوره على تصور خاص للمعرفة"
وفي البدء لا بد أن يتوجه مدار الكلام نحو موضوع نظرية المعرفة، ولنبدأ بالتساؤل:
ما الموضوع الذي تقوم نظرية المعرفة بتناوله بالدرس؟
وبالتالي فإن نظرية المعرفة تتناول بالدرس عدد من القضايا، من أهمها:
أ/ إمكانية المعرفة: تحاول نظرية المعرفة هنا الإجابة على السؤال: هل بوسع الإنسان أن يعرف أم لا؟
ب/ وسائل المعرفة: إذا كان في إمكان الإنسان أن يعرف. فما هي وسائله في ذلك؟
ج/ حدود المعرفة: هل للمعرفة الإنسانية حدود تقف عندها ولا تستطيع مجاوزتها؟ أم أنه ليس لمعرفة الإنسان حدود تحدّها، بمعنى أنه بوسعه معرفة كل شيء يؤد معرفته؟
د/ صدق المعرفة: كيف يكون بوسعنا أن نميز في أفكارنا بين الصحيح منها والخاطئ؟ بطريقة أخرى: هل ثمة معايير نتوسلها لتحقيق هذا التمييز؟ وما هي؟
هـ/ طبيعة المعرفة: تتساءل نظرية المعرفة هنا عن طبيعة مشكلة المعرفة: هل المعرفة ذات طبيعة مثالية؟ أم ذات طبيعية واقعية؟ ولذلك فإن قضية طبيعة المعرفة هنا إنما تتوقف على فحص العلاقة المعرفية التي تجمع الذات بوصفها عارفة وموضوع معرفتها.
1/ إمكانية المعرفة:
من حيث المبدأ تدور هذه المشكلة حول التساؤل الأساسي:
هل في إمكان الذات الإنسانية أن تعرف؟
وقبل أن نستعرض الإجابة المقدمة لهذا السؤال، من بعض الاتجاهات والتيارات الفلسفية، لا بد من فهم السؤال نفسه.
ولكي نفهم السؤال فإن ذلك يعني طرح مزيد من التساؤلات التي تتولد من السؤال السابق وتنبثق عنه:
نحن تساءلنا: هل بإمكان الإنسان أن يعرف أم لا؟
وواضح أن المقصود بالمعرفة هنا المعرفة اليقينية التي لا شك فيها ولا مواربة.
والسؤال الذي يطرح نفسه في ذات السياق هو: يعرف ماذا؟
والجواب أن يعرف حقيقة الموضوع.
وبالتالي إعادة صياغة السؤال بشكل واضح: هل في إمكان الذات الإنسانية أن تتوصل إلى معرفة (حقيقة) موضوع المعرفة بشكل يقيني أم لا؟
يمكننا على مستوى تاريخ الفلسفة أن نقسم الفلاسفة في محاولتهم الإجابة على السؤال السابق إلى فريقين:
الفريق الأول: يتمثل في الفلاسفة القائلين بإمكانية المعرفة. أي أن بإمكان الذات الإنسانية أن تتوصل إلى معرفة الموضوع معرفة يقينية.
الفريق الثاني: يمثله الفلاسفة الذين أنكروا إمكانية المعرفة. هم لم ينكروا أن بإمكان الإنسان أن يعرف، لكنهم أنكروا أن بإمكانه أن يثق في يقينية معرفته، وهؤلاء هم الشكاكSceptics .
وإذا تتبعنا الجذر اللغوي لكلمة Scepticism لوجدناها تعود " إلى كلمة يونانية تعني (يبحث) أو يستقصي حتى يكشف، ثم تطور معناها لتدل على الإنسان حيال بحثه عن الحقيقة، ولكنه لا يعثر على أية حقيقة"
وهذا ما جعل الشكاك يرون استحالة قيام معرفة يقينية.
وهنالك نوع من الشك يُسمى "الشك المطلق" أو " الشك المذهبي"، والذي من أنصاره اليوناني "بيرون" الذي رأى الشك المطلق باعتباره نوعا " من تعليق الحكم، فما دمنا لا نثق في الحس ولا في العقل معا فيحسن أن نبقى من غير رأي دون الميل إلى هذا أو ذاك" ومن هنا جاء وصفهم ب (اللا أدرية) الذي تلخصه العبارة المأثورة عنهم في الإجابة عن كل سؤال: لا ندري!
وبالتالي فإن أنصار هذا المذهب ينكرون قدرة الإنسان على المعرفة اليقينية، وعدم استطاعته الوصول إلى أية حقيقة موضوعية، وينكرون وجود أية حقيقة يقينية بوسع الإنسان الاطمئنان لها والركون إليها، فمثل هذه الحقيقة لا وجود لها.
وفي ذات السياق وتحديدا مع الفلسفة اليونانية ما قبل "سقراط" نجد أن فلاسفة السوفسطائية، أثاروا أزمة حول قضية إمكانية المعرفة اليقينية، ذلك أنهم كانوا يرون أن الصواب والخطأ سيان، مما ترتب عليه التشكيك في إمكانية التوصل إلى معرفة الحقيقة اليقينية والموضوعية، وأصبحت الذات الإنسانية هي التي تخلق وتصنع وتشكل الحقيقة، وهذا المعيار للحقيقة أكده السوفسطائي "بروتاجوراس"Protagoras في مقولته الشهيرة: "الإنسان مقياس جميع الأشياء". وتعكس هذه المقولة روح الفلسفة السوفسطائية كلها.
ومجمل آراء فلاسفة السوفسطائية أن الطريق إلى فهم ومعرفة مشكلة العالم طريق شاق وعسير، والآراء فيه غير متفقة بل متضاربة ومتناقضة مع بعضها، وأدوات المعرفة ووسائلها عاجزة عن مد يد العون لنا لمعرفة يقينية لهذا العالم ولعملية إدراكه.
وهذا هو السبب الذي أدى بدوره إلى اختلاف المدارس الفلسفية السابقة ـ عليهم ـ في تفسيره ومعرفته وإدراكه. وليس بعضها أفضل من بعض، على مستوى ما توصلوا إليه من نتائج، فلذلك لابد من الشك فيها جميعاً.
أسس فلاسفة السوفسطائية إلى ما ذهبوا إليه بناءا على حجتهم التالية: طالما أن الحواس هي ما يمكن اعتباره مصدرا وحيدا للمعرفة ـ وهي الوسيلة التي تبنتها قبلهم غالبية مدارس الفلسفة اليونانيةـ وهذا المصدر لو فحصناه وتأملنا فيه، سنتوصل إلى إن الحواس: متغيرة لا تثبت على حال واحدة، ثم هي تختلف باختلاف الأفراد، كما تتأثر بالمحسوسات التي هي أيضاً في تغير دائم، فتجئ أحكامها على الشيء الواحد مختلفة باختلاف أحوال الزمان والمكان، وباختلاف أحوال الأفراد من صحة أو مرض، وباختلاف درجات ثقافاتهم، بل ربما تعارضت هذه الأحكام وتقابلت.
وبناءا على هذه الحجة يقرر السوفسطائيون مبدئهم التالي: من الصعب الوصول إلى حقيقة ثابتة نهائية، فالحقائق إذن نسبية متغيرة. وليس هنالك حقيقة عامة مطلقة.
وبالتالي يصبح الإنسان الفرد معيارا ومقياسا للحقيقة: فإذا اختلف اثنان في الحكم على معرفة موضوع واحد، فوجهة نظر كلٌ منهما صائبة، ولو كانت وجهات نظرهم متناقضة مع بعضها البعض.
وهذا يعني أنه طالما كان الإنسان الفرد معيارا للحقيقة، يلزم من ذلك ليس ثمة خطأ دائم مطلق، ولا صواب دائم مطلق.
إذن مع السوفسطائية لا توجد قيمة مطلقة ثابتة، والسبب في اعتقادهم راجع إلى أن القيم نسبية متغيرة من فرد لآخر، كما تتغير بتغير الزمان والمكان.
فما يراه مجتمع ما في نظم وقيم أنها خير تكون بالنسبة له كذلك، على حين قد يرى مجتمع آخر نفس النظم والقيم أنها شر، فهي كذلك بالنسبة له.
وبذلك فإن في إمكاننا تأول النزعة الشكية بالقول على أنها قائمة على مسلمة فحواها " ألا نسلم أو ندعي المعرفة بشيء ما إلا إذا كنا على يقين تام منها، وأن نتأكد حينئذ من أن وقوعنا في الخطأ أمر غير وارد تماما"
من جهة أخرى، إذا رجعنا مرة أخرى إلى السؤال السابق: هل في إمكان الذات الإنسانية أن تتوصل إلى معرفة حقيقة موضوع المعرفة بشكل يقيني أم لا؟
ولذلك فالإجابة المقدمة على مستوى علوم الطبيعة، تختلف عن الإجابة المقدمة على مستوى علوم الإنسان.
فعلى مستوى العلوم الطبيعية، فبإمكان الذات الإنسانية بوصفها ذات عارفة أن تتوصل إلى معرفة حقيقة موضوع المعرفة.
وموضوع المعرفة يتمثل هنا في الظاهرة الطبيعية، وهدف العلم هنا هو التوصل إلى القوانين التي عن طريقها نستطيع أن نفسر هذه الظاهرة التفسير الصحيح ونستطيع في نفس الوقت التنبؤ بما سيحدث لها مستقبلا، وبالتالي نستطيع التحكم بها والسيطرة عليها، ومن ثم تسخيرها لخدمة أغراضنا وأهدافنا وغاياتنا الإنسانية.
وبالتالي ففي هذا المجال فبإمكان الذات أن تضع يدها على معرفة يقينية بموضوع معرفتها، وذلك عبر المنهج الاستقرائي، القائم على الملاحظة والتجريب.
إن قضايا العلوم الطبيعية يُعرف صدقها وكذبها عن طريق التجربة الحسية، فمثلا عندما نقول: الحديد يتمدد بالحرارة، فإذا أردنا أن نتحقق من صدق أو كذب هذه القضية فما علينا سوى أن نحضر قضيب من الحديد، ونقيس طول هذا القضيب قبل تعريضه للتسخين، ومن ثم نقوم بتعريضه للتسخين، ثم بعد فترة كافية من تعرضه للتسخين نقوم بقياس قطعة الحديد، فإذا وجدناها أطول من القياس الأول (قبل التسخين) فإن ذلك يعني أن القضية صادقة.
أما إذا لم يزيد طول قطعة الحديد بعد التسخين عما كان عليه، فإن ذلك يعني أن القضية كاذبة.
وفي كلتا الحالتين نكون قد تحصلنا على معرفة يقينية لا سبيل للشك فيها.
وهكذا فإن المصدر الوحيد للمعرفة اليقينية هو ما أُستمد من التجربة الحسية.
وتأسيسا على ما سبق، بوسعنا القول بأن المعرفة اليقينية الحقّة مرتبطة بالحقل المعرفي لعلوم الطبيعة، أما خارج هذه الدائرة فما زال سؤال نظرية المعرفة عن إمكانية المعرفة اليقينية قائما حتى الآن،
ولذلك ينبغي أن نجري تعديلا في السؤال كما يلي: هل في إمكان الذات العارفة أن تتوصل إلى الحقيقة اليقينية لموضوع معرفتها خارج دائرة العلوم الطبيعية؟ أم لا؟
في ذات السياق لابد من التنويه إلى أن السؤال السابق هو الذي كان يمثل الشاغل الأساسي لنظرية المعرفة في العصر الحديث، ولم يكن ذلك الانشغال من فراغ، فهي الفترة نفسها التي شهدت انفصال واستقلال العلوم عن الفلسفة، وهي الفترة ذاتها التي شهدت النقلة والطفرة للنموذج المعرفي لعلوم الطبيعة.
وقد تم طرح هذا التساؤل من قبل فلاسفة الفلسفة الحديثة، وذلك راجع، كما أسلفنا، إلى أن فلاسفة ذاك العصر كلهم كانوا قد شهدوا الطفرة العلمية والتقدم الهائل الذي حدث على مستوى علوم الطبيعة.
والتي كان لإنجازاتها الأثر الباهر والجاذب لكثير من فلاسفة العصر الحديث، " وإذا ما أردنا بناء السجال الفلسفي للعصر الحديث على شكل مداولات تجري في محكمة، فإن مثل هذا السجال سيكون مدعوا لحسم السؤال الوحيد التالي: كيف يمكن أن نحصل على معرفة موثوقة؟" الأمر الذي جعلهم يفكرون في محاولة تأسيس كل معارف الإنسان على أساس يقيني وراسخ رسوخ العلم الطبيعي والعلم الرياضي.
فبداية من "فرنسيس بيكون" الذي دعا إلى استخدام منهج استقرائي تجريبي، نستطيع من خلاله تفسير ظواهر الطبيعة، حتى يتأتى لنا السيطرة عليها وتسخيرها لصالح الإنسان.
مرورا ب"ديكارت" الذي أراد أن يشيّد كل معارفه على أساس يقيني، ووجد هذا الأساس متمثلا في العلم الرياضي، حيث كان يرى ـ طبقا لمعارف عصره ـ أن المعرفة اليقينية الوحيدة هي المعرفة الرياضية.
وذاك هو أيضا كان مشروع "كانط"(1724-1804) المتمثل في إقامة مشروعية الفلسفة والميتافيزيقا.
وفي هذا السياق يمكننا اعتبار مشروع كانط في فلسفته النقدية ـ وخاصة في نقده للعقل النظري والعقل العملي ـ محاولة للإجابة على السؤال المفترض:
إلى أي مدى يمكن تأسيس الميتافيزيقا على أساس يقيني وراسخ رسوخ العلم الطبيعي والعلم الرياضي؟ "
وبالطبع فإن كانط لم يسأل هذا السؤال إلا بعد أن لاحظ أن هذه العلوم قد تقدمت ووصلت إلى حد كبير من اليقين المصحوب بالأدلة العقلية والتجريبية، بينما وجد أن الفلسفة لا تزال في مكانها لم تتقدم خطوة إلى الأمام وخاصة في مجال بحث القضايا الميتافيزيقية من أمثال قضية وجود الله، ومعنى النفس ومصيرها..الخ"
ولكن هل نجح كانط فعلا فيما فشل فيه العلم من بعده؟! "
لقد قيد كانط نفسه بعلم عصره، فاستلهم منه إطار فلسفته، وأسس على فروضه مسبقاته وقبلياته.
ولكن العلم سرعان ما عمل على تمزيق ذلك الإطار ونسف تلك المسبقات، لقد شيد كانط صرح فلسفته على مسلمات فيزياء "نيوتن"، فاعتبر الزمان والمكان إطارين مستقلين عن التجربة وظروف المجرب.
وستأتي نظرية النسبية، لتقول بنسبية الزمان والمكان وتعلقهما بالمنظومة المرجعية للملاحظ، كما ستأتي نظرية الكم "الكوانتا"، لتجعل الاحتمال يحل محل الحتمية"
ومن جهة أخرى نجد الوضعية المنطقية، في قضية إمكان المعرفة قد رأت آلاتي:
بإمكان الذات الإنسانية بوصفها ذات عارفة أن تتوصل إلى معرفة يقينية عن موضوع معرفتها، ولكن هذا الإمكان مشروط بإمكان آخر وهو إمكان التحقق.
بمعنى أن قضايا معرفتنا أو موضوع المعرفة يجب أن يكون ذا معنى، وأن يكون بإمكاننا التحقق تجريبيا من صدق أو كذب ما تتوصل إليه الذات العارفة من نتائج أو معرفة بموضوع معرفتها.
وبطريقة أخرى في التعبير:
يمكننا أن نقول أن الوضعية المنطقية قد رأت أن إمكانية المعرفة اليقينية مرتبطة بحقل وبدائرة القضايا التجريبية والقضايا التحليلية (المنطق والرياضيات)، أما خارج نطاق هذه الدائرة فليس بوسع الذات الإنسانية الإدعاء بيقينية معارفها لأنها مجرد لغو خالي من أية معنى.
والدائرة المقصودة هنا هي الدائرة التي تضم قضايا الميتافيزيقا، الدين، الشعر، الفن، الأدب، الدراسات الإنسانية بما فيها الفلسفة نفسها.
هذه القضايا من وجهة نظر الوضعي المنطقي خالية من المعنى، وبالتالي ليس باستطاعتنا أن نحكم بصدقها أو بكذبها، بل هم يذهبون أبعد من ذلك بقولهم أن مثل هذه القضايا لا يصح أن تكون موضوع للمعرفة من الأساس!
وقد أخطأ الوضعيون المناطقة في تصورهم هذا، لأن العالم ليس معادلة رياضية (ليس 1+1=2)، ولأن التاريخ والواقع يقولان أن هناك أشياء كثيرة أثرت ولازالت تؤثر في حياة الشعوب: الخرافة، الدين، الميثولوجيا، الشعر، الفن، الأفكار الميتافيزيقية..الخ.
بعد ذلك، حدثت الكثير من التطورات على الصعيد العلمي وخاصة في علوم الطبيعة وعلوم الحياة، حيث ظهرت نظرية التطور الدارونية، ونظريات الكوانتم والنسبية، وقد أثر كل هذا على الفلسفة المعاصرة حيث أصبح فلاسفتها أكثر تواضعا وأكثر إيمانا بنسبية الحقيقة،
ولم تعد الفلسفة المعاصرة شديدة الحماس للأسئلة التقليدية التي كانت تطرحها نظرية المعرفة وخاصة سؤالها عن إمكانية المعرفة اليقينية، فلم يعد التساؤل هنا عن يقينية المعرفة الإنسانية، فلم يعد لهذا السؤال شرعية، وهي نتيجة قد توصل إليها الكثير من فلاسفة المعرفة في العصر الحديث الذين كانوا يحلمون في تأسيس كل معارف الإنسان على أساس يقيني، ولكنهم اكتشفوا استحالة تحقيق هذا الحلم وكان ذلك ممثلا في "كانط" الذي توصل إلى أننا لا يمكن أن نعرف "الشيء في ذاته" معرفة يقينية وإنما حسبنا ما يتبد لنا منه ظاهرا.
وإذا أردنا تأول القول الكانطي فإننا نقول: فرق كانط بين عالم (ظاهر الأشياء) وعالم (الأشياء في ذاتها)، ورأى أن عالم (ظاهر الأشياء) هو العالم الطبيعي المحسوس وبالتالي يمكننا التوصل إلى معرفته معرفة يقينية بواسطة مناهج العلوم الطبيعية، أما ما وراء ظاهر الأشياء أو عالم (الأشياء ذاتها) فلا يمكن للعقل النظري أن يعرف موضوعاته بشكل يقيني قاطع.
ولذلك كل قضايا الميتافيزيقا التقليدية مثل وجود الله والدين والأخلاق وماهية النفس ومصيرها..الخ، كل هذا القضايا رأى "كانط" أنه طالما عجز العقل النظري عن معرفتها، فيتوجب على العقل العملي التسليم والإيمان بها، بالرغم من عدم توفر أدلة قاطعة بشأنها، لأن حياتنا بدونها تستحيل.
مع الفلسفة المعاصرة وفي ظل كل هذه التطورات، أضحى الكلام عن نموذج المعرفة القائم على "التأويل" نموذج معرفة لا يدعي بأي حال اليقين والقطعية.
بل على العكس تماما، يرى أنه يتأسس على معرفة احتمالية نسبية قابلة للتطور والتعديل والحذف والإضافة.
باختصار معرفة ليست لديها قدسية، بل هي باستمرار قابلة للقراءة وإعادة القراءة، قابلة للتأويل وإعادة التأويل.
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=293058
الحوار المتمدن - العدد: 3620 - 2012 / 1 / 27 - 20:24
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
مجدي عزالدين حسن في نظرية المعرفة |
مقدمة:
تمثل نظرية المعرفة Epistemology• أهم مبحث من مباحث الفلسفة بمعناها التقليدي، بجانب مبحثي الوجودOntology والقيمAxiology ، اللذين ترتبط بهما نظرية المعرفة برابطة قوية.
وتكمن أهمية هذا المبحث في أننا لا نستطيع تصور نظرية عن الوجود بدون أن تقوم وتتأسس على تصور نظري للمعرفة لأن " كل ادعاء بالمعرفة لابد أن يتضمن فيما يبدو، تقريرا عما هو موجود وغير موجود، في حين أن أي تقرير عن الواقع هو كذلك ادعاء بالمعرفة، ويصعب بسبب هذه العلاقة المتبادلة أن نعرف إن كان هناك أي معنى لقولنا إن نظرية المعرفة سابقة على نظرية الوجود، أو أن نظرية الوجود هي التي تسبق نظرية المعرفة.
ومع ذلك فقد جرت العادة في تاريخ الفلسفة على القول بأن أحدى هاتين المشكلتين سبقت الأخرى"
و" كذلك الحال فيما يتصل... بالاكسيولوجيا أو( نظرية القيم ) إذ أن كل تصور لطبيعة الأحكام الأخلاقية والجمالية يستند بدوره على تصور خاص للمعرفة"
وفي البدء لا بد أن يتوجه مدار الكلام نحو موضوع نظرية المعرفة، ولنبدأ بالتساؤل:
ما الموضوع الذي تقوم نظرية المعرفة بتناوله بالدرس؟
والإجابة
هي:
موضوع نظرية المعرفة يتمثل في دراسة "المعرفة" نفسها إمكانها ومصادرها
وطبيعتها وحدودها وكيفية التحقق منها وتمييز ما هو صحيح منها مما هو خاطئ.وبالتالي فإن نظرية المعرفة تتناول بالدرس عدد من القضايا، من أهمها:
أ/ إمكانية المعرفة: تحاول نظرية المعرفة هنا الإجابة على السؤال: هل بوسع الإنسان أن يعرف أم لا؟
ب/ وسائل المعرفة: إذا كان في إمكان الإنسان أن يعرف. فما هي وسائله في ذلك؟
ج/ حدود المعرفة: هل للمعرفة الإنسانية حدود تقف عندها ولا تستطيع مجاوزتها؟ أم أنه ليس لمعرفة الإنسان حدود تحدّها، بمعنى أنه بوسعه معرفة كل شيء يؤد معرفته؟
د/ صدق المعرفة: كيف يكون بوسعنا أن نميز في أفكارنا بين الصحيح منها والخاطئ؟ بطريقة أخرى: هل ثمة معايير نتوسلها لتحقيق هذا التمييز؟ وما هي؟
هـ/ طبيعة المعرفة: تتساءل نظرية المعرفة هنا عن طبيعة مشكلة المعرفة: هل المعرفة ذات طبيعة مثالية؟ أم ذات طبيعية واقعية؟ ولذلك فإن قضية طبيعة المعرفة هنا إنما تتوقف على فحص العلاقة المعرفية التي تجمع الذات بوصفها عارفة وموضوع معرفتها.
1/ إمكانية المعرفة:
من حيث المبدأ تدور هذه المشكلة حول التساؤل الأساسي:
هل في إمكان الذات الإنسانية أن تعرف؟
وقبل أن نستعرض الإجابة المقدمة لهذا السؤال، من بعض الاتجاهات والتيارات الفلسفية، لا بد من فهم السؤال نفسه.
ولكي نفهم السؤال فإن ذلك يعني طرح مزيد من التساؤلات التي تتولد من السؤال السابق وتنبثق عنه:
نحن تساءلنا: هل بإمكان الإنسان أن يعرف أم لا؟
وواضح أن المقصود بالمعرفة هنا المعرفة اليقينية التي لا شك فيها ولا مواربة.
والسؤال الذي يطرح نفسه في ذات السياق هو: يعرف ماذا؟
والجواب أن يعرف حقيقة الموضوع.
وبالتالي إعادة صياغة السؤال بشكل واضح: هل في إمكان الذات الإنسانية أن تتوصل إلى معرفة (حقيقة) موضوع المعرفة بشكل يقيني أم لا؟
يمكننا على مستوى تاريخ الفلسفة أن نقسم الفلاسفة في محاولتهم الإجابة على السؤال السابق إلى فريقين:
الفريق الأول: يتمثل في الفلاسفة القائلين بإمكانية المعرفة. أي أن بإمكان الذات الإنسانية أن تتوصل إلى معرفة الموضوع معرفة يقينية.
الفريق الثاني: يمثله الفلاسفة الذين أنكروا إمكانية المعرفة. هم لم ينكروا أن بإمكان الإنسان أن يعرف، لكنهم أنكروا أن بإمكانه أن يثق في يقينية معرفته، وهؤلاء هم الشكاكSceptics .
وإذا تتبعنا الجذر اللغوي لكلمة Scepticism لوجدناها تعود " إلى كلمة يونانية تعني (يبحث) أو يستقصي حتى يكشف، ثم تطور معناها لتدل على الإنسان حيال بحثه عن الحقيقة، ولكنه لا يعثر على أية حقيقة"
وهذا ما جعل الشكاك يرون استحالة قيام معرفة يقينية.
وهنالك نوع من الشك يُسمى "الشك المطلق" أو " الشك المذهبي"، والذي من أنصاره اليوناني "بيرون" الذي رأى الشك المطلق باعتباره نوعا " من تعليق الحكم، فما دمنا لا نثق في الحس ولا في العقل معا فيحسن أن نبقى من غير رأي دون الميل إلى هذا أو ذاك" ومن هنا جاء وصفهم ب (اللا أدرية) الذي تلخصه العبارة المأثورة عنهم في الإجابة عن كل سؤال: لا ندري!
وبالتالي فإن أنصار هذا المذهب ينكرون قدرة الإنسان على المعرفة اليقينية، وعدم استطاعته الوصول إلى أية حقيقة موضوعية، وينكرون وجود أية حقيقة يقينية بوسع الإنسان الاطمئنان لها والركون إليها، فمثل هذه الحقيقة لا وجود لها.
وفي ذات السياق وتحديدا مع الفلسفة اليونانية ما قبل "سقراط" نجد أن فلاسفة السوفسطائية، أثاروا أزمة حول قضية إمكانية المعرفة اليقينية، ذلك أنهم كانوا يرون أن الصواب والخطأ سيان، مما ترتب عليه التشكيك في إمكانية التوصل إلى معرفة الحقيقة اليقينية والموضوعية، وأصبحت الذات الإنسانية هي التي تخلق وتصنع وتشكل الحقيقة، وهذا المعيار للحقيقة أكده السوفسطائي "بروتاجوراس"Protagoras في مقولته الشهيرة: "الإنسان مقياس جميع الأشياء". وتعكس هذه المقولة روح الفلسفة السوفسطائية كلها.
ومجمل آراء فلاسفة السوفسطائية أن الطريق إلى فهم ومعرفة مشكلة العالم طريق شاق وعسير، والآراء فيه غير متفقة بل متضاربة ومتناقضة مع بعضها، وأدوات المعرفة ووسائلها عاجزة عن مد يد العون لنا لمعرفة يقينية لهذا العالم ولعملية إدراكه.
وهذا هو السبب الذي أدى بدوره إلى اختلاف المدارس الفلسفية السابقة ـ عليهم ـ في تفسيره ومعرفته وإدراكه. وليس بعضها أفضل من بعض، على مستوى ما توصلوا إليه من نتائج، فلذلك لابد من الشك فيها جميعاً.
أسس فلاسفة السوفسطائية إلى ما ذهبوا إليه بناءا على حجتهم التالية: طالما أن الحواس هي ما يمكن اعتباره مصدرا وحيدا للمعرفة ـ وهي الوسيلة التي تبنتها قبلهم غالبية مدارس الفلسفة اليونانيةـ وهذا المصدر لو فحصناه وتأملنا فيه، سنتوصل إلى إن الحواس: متغيرة لا تثبت على حال واحدة، ثم هي تختلف باختلاف الأفراد، كما تتأثر بالمحسوسات التي هي أيضاً في تغير دائم، فتجئ أحكامها على الشيء الواحد مختلفة باختلاف أحوال الزمان والمكان، وباختلاف أحوال الأفراد من صحة أو مرض، وباختلاف درجات ثقافاتهم، بل ربما تعارضت هذه الأحكام وتقابلت.
وبناءا على هذه الحجة يقرر السوفسطائيون مبدئهم التالي: من الصعب الوصول إلى حقيقة ثابتة نهائية، فالحقائق إذن نسبية متغيرة. وليس هنالك حقيقة عامة مطلقة.
وبالتالي يصبح الإنسان الفرد معيارا ومقياسا للحقيقة: فإذا اختلف اثنان في الحكم على معرفة موضوع واحد، فوجهة نظر كلٌ منهما صائبة، ولو كانت وجهات نظرهم متناقضة مع بعضها البعض.
وهذا يعني أنه طالما كان الإنسان الفرد معيارا للحقيقة، يلزم من ذلك ليس ثمة خطأ دائم مطلق، ولا صواب دائم مطلق.
إذن مع السوفسطائية لا توجد قيمة مطلقة ثابتة، والسبب في اعتقادهم راجع إلى أن القيم نسبية متغيرة من فرد لآخر، كما تتغير بتغير الزمان والمكان.
فما يراه مجتمع ما في نظم وقيم أنها خير تكون بالنسبة له كذلك، على حين قد يرى مجتمع آخر نفس النظم والقيم أنها شر، فهي كذلك بالنسبة له.
وبذلك فإن في إمكاننا تأول النزعة الشكية بالقول على أنها قائمة على مسلمة فحواها " ألا نسلم أو ندعي المعرفة بشيء ما إلا إذا كنا على يقين تام منها، وأن نتأكد حينئذ من أن وقوعنا في الخطأ أمر غير وارد تماما"
من جهة أخرى، إذا رجعنا مرة أخرى إلى السؤال السابق: هل في إمكان الذات الإنسانية أن تتوصل إلى معرفة حقيقة موضوع المعرفة بشكل يقيني أم لا؟
واضح
هنا أننا إذا تأملنا هذا السؤال وتفحصناه، سنرى أن الإجابة عليه تتوقف على
نوعية الموضوع المراد معرفته؟
لأن السؤال: هل في إمكان الإنسان أن يعرف
الطبيعة؟ يختلف عن السؤال: هل بالإمكان معرفة الله؟ هل بالإمكان معرفة
الإنسان؟ هل بالإمكان معرفة الشيطان؟! ولذلك فالإجابة المقدمة على مستوى علوم الطبيعة، تختلف عن الإجابة المقدمة على مستوى علوم الإنسان.
فعلى مستوى العلوم الطبيعية، فبإمكان الذات الإنسانية بوصفها ذات عارفة أن تتوصل إلى معرفة حقيقة موضوع المعرفة.
وموضوع المعرفة يتمثل هنا في الظاهرة الطبيعية، وهدف العلم هنا هو التوصل إلى القوانين التي عن طريقها نستطيع أن نفسر هذه الظاهرة التفسير الصحيح ونستطيع في نفس الوقت التنبؤ بما سيحدث لها مستقبلا، وبالتالي نستطيع التحكم بها والسيطرة عليها، ومن ثم تسخيرها لخدمة أغراضنا وأهدافنا وغاياتنا الإنسانية.
وبالتالي ففي هذا المجال فبإمكان الذات أن تضع يدها على معرفة يقينية بموضوع معرفتها، وذلك عبر المنهج الاستقرائي، القائم على الملاحظة والتجريب.
إن قضايا العلوم الطبيعية يُعرف صدقها وكذبها عن طريق التجربة الحسية، فمثلا عندما نقول: الحديد يتمدد بالحرارة، فإذا أردنا أن نتحقق من صدق أو كذب هذه القضية فما علينا سوى أن نحضر قضيب من الحديد، ونقيس طول هذا القضيب قبل تعريضه للتسخين، ومن ثم نقوم بتعريضه للتسخين، ثم بعد فترة كافية من تعرضه للتسخين نقوم بقياس قطعة الحديد، فإذا وجدناها أطول من القياس الأول (قبل التسخين) فإن ذلك يعني أن القضية صادقة.
أما إذا لم يزيد طول قطعة الحديد بعد التسخين عما كان عليه، فإن ذلك يعني أن القضية كاذبة.
وفي كلتا الحالتين نكون قد تحصلنا على معرفة يقينية لا سبيل للشك فيها.
وهكذا فإن المصدر الوحيد للمعرفة اليقينية هو ما أُستمد من التجربة الحسية.
وتأسيسا على ما سبق، بوسعنا القول بأن المعرفة اليقينية الحقّة مرتبطة بالحقل المعرفي لعلوم الطبيعة، أما خارج هذه الدائرة فما زال سؤال نظرية المعرفة عن إمكانية المعرفة اليقينية قائما حتى الآن،
ولذلك ينبغي أن نجري تعديلا في السؤال كما يلي: هل في إمكان الذات العارفة أن تتوصل إلى الحقيقة اليقينية لموضوع معرفتها خارج دائرة العلوم الطبيعية؟ أم لا؟
في ذات السياق لابد من التنويه إلى أن السؤال السابق هو الذي كان يمثل الشاغل الأساسي لنظرية المعرفة في العصر الحديث، ولم يكن ذلك الانشغال من فراغ، فهي الفترة نفسها التي شهدت انفصال واستقلال العلوم عن الفلسفة، وهي الفترة ذاتها التي شهدت النقلة والطفرة للنموذج المعرفي لعلوم الطبيعة.
وقد تم طرح هذا التساؤل من قبل فلاسفة الفلسفة الحديثة، وذلك راجع، كما أسلفنا، إلى أن فلاسفة ذاك العصر كلهم كانوا قد شهدوا الطفرة العلمية والتقدم الهائل الذي حدث على مستوى علوم الطبيعة.
والتي كان لإنجازاتها الأثر الباهر والجاذب لكثير من فلاسفة العصر الحديث، " وإذا ما أردنا بناء السجال الفلسفي للعصر الحديث على شكل مداولات تجري في محكمة، فإن مثل هذا السجال سيكون مدعوا لحسم السؤال الوحيد التالي: كيف يمكن أن نحصل على معرفة موثوقة؟" الأمر الذي جعلهم يفكرون في محاولة تأسيس كل معارف الإنسان على أساس يقيني وراسخ رسوخ العلم الطبيعي والعلم الرياضي.
فبداية من "فرنسيس بيكون" الذي دعا إلى استخدام منهج استقرائي تجريبي، نستطيع من خلاله تفسير ظواهر الطبيعة، حتى يتأتى لنا السيطرة عليها وتسخيرها لصالح الإنسان.
مرورا ب"ديكارت" الذي أراد أن يشيّد كل معارفه على أساس يقيني، ووجد هذا الأساس متمثلا في العلم الرياضي، حيث كان يرى ـ طبقا لمعارف عصره ـ أن المعرفة اليقينية الوحيدة هي المعرفة الرياضية.
وذاك هو أيضا كان مشروع "كانط"(1724-1804) المتمثل في إقامة مشروعية الفلسفة والميتافيزيقا.
وفي هذا السياق يمكننا اعتبار مشروع كانط في فلسفته النقدية ـ وخاصة في نقده للعقل النظري والعقل العملي ـ محاولة للإجابة على السؤال المفترض:
إلى أي مدى يمكن تأسيس الميتافيزيقا على أساس يقيني وراسخ رسوخ العلم الطبيعي والعلم الرياضي؟ "
وبالطبع فإن كانط لم يسأل هذا السؤال إلا بعد أن لاحظ أن هذه العلوم قد تقدمت ووصلت إلى حد كبير من اليقين المصحوب بالأدلة العقلية والتجريبية، بينما وجد أن الفلسفة لا تزال في مكانها لم تتقدم خطوة إلى الأمام وخاصة في مجال بحث القضايا الميتافيزيقية من أمثال قضية وجود الله، ومعنى النفس ومصيرها..الخ"
ولكن هل نجح كانط فعلا فيما فشل فيه العلم من بعده؟! "
لقد قيد كانط نفسه بعلم عصره، فاستلهم منه إطار فلسفته، وأسس على فروضه مسبقاته وقبلياته.
ولكن العلم سرعان ما عمل على تمزيق ذلك الإطار ونسف تلك المسبقات، لقد شيد كانط صرح فلسفته على مسلمات فيزياء "نيوتن"، فاعتبر الزمان والمكان إطارين مستقلين عن التجربة وظروف المجرب.
وستأتي نظرية النسبية، لتقول بنسبية الزمان والمكان وتعلقهما بالمنظومة المرجعية للملاحظ، كما ستأتي نظرية الكم "الكوانتا"، لتجعل الاحتمال يحل محل الحتمية"
ومن جهة أخرى نجد الوضعية المنطقية، في قضية إمكان المعرفة قد رأت آلاتي:
بإمكان الذات الإنسانية بوصفها ذات عارفة أن تتوصل إلى معرفة يقينية عن موضوع معرفتها، ولكن هذا الإمكان مشروط بإمكان آخر وهو إمكان التحقق.
بمعنى أن قضايا معرفتنا أو موضوع المعرفة يجب أن يكون ذا معنى، وأن يكون بإمكاننا التحقق تجريبيا من صدق أو كذب ما تتوصل إليه الذات العارفة من نتائج أو معرفة بموضوع معرفتها.
وبطريقة أخرى في التعبير:
يمكننا أن نقول أن الوضعية المنطقية قد رأت أن إمكانية المعرفة اليقينية مرتبطة بحقل وبدائرة القضايا التجريبية والقضايا التحليلية (المنطق والرياضيات)، أما خارج نطاق هذه الدائرة فليس بوسع الذات الإنسانية الإدعاء بيقينية معارفها لأنها مجرد لغو خالي من أية معنى.
والدائرة المقصودة هنا هي الدائرة التي تضم قضايا الميتافيزيقا، الدين، الشعر، الفن، الأدب، الدراسات الإنسانية بما فيها الفلسفة نفسها.
هذه القضايا من وجهة نظر الوضعي المنطقي خالية من المعنى، وبالتالي ليس باستطاعتنا أن نحكم بصدقها أو بكذبها، بل هم يذهبون أبعد من ذلك بقولهم أن مثل هذه القضايا لا يصح أن تكون موضوع للمعرفة من الأساس!
وقد أخطأ الوضعيون المناطقة في تصورهم هذا، لأن العالم ليس معادلة رياضية (ليس 1+1=2)، ولأن التاريخ والواقع يقولان أن هناك أشياء كثيرة أثرت ولازالت تؤثر في حياة الشعوب: الخرافة، الدين، الميثولوجيا، الشعر، الفن، الأفكار الميتافيزيقية..الخ.
بعد ذلك، حدثت الكثير من التطورات على الصعيد العلمي وخاصة في علوم الطبيعة وعلوم الحياة، حيث ظهرت نظرية التطور الدارونية، ونظريات الكوانتم والنسبية، وقد أثر كل هذا على الفلسفة المعاصرة حيث أصبح فلاسفتها أكثر تواضعا وأكثر إيمانا بنسبية الحقيقة،
ولم تعد الفلسفة المعاصرة شديدة الحماس للأسئلة التقليدية التي كانت تطرحها نظرية المعرفة وخاصة سؤالها عن إمكانية المعرفة اليقينية، فلم يعد التساؤل هنا عن يقينية المعرفة الإنسانية، فلم يعد لهذا السؤال شرعية، وهي نتيجة قد توصل إليها الكثير من فلاسفة المعرفة في العصر الحديث الذين كانوا يحلمون في تأسيس كل معارف الإنسان على أساس يقيني، ولكنهم اكتشفوا استحالة تحقيق هذا الحلم وكان ذلك ممثلا في "كانط" الذي توصل إلى أننا لا يمكن أن نعرف "الشيء في ذاته" معرفة يقينية وإنما حسبنا ما يتبد لنا منه ظاهرا.
وإذا أردنا تأول القول الكانطي فإننا نقول: فرق كانط بين عالم (ظاهر الأشياء) وعالم (الأشياء في ذاتها)، ورأى أن عالم (ظاهر الأشياء) هو العالم الطبيعي المحسوس وبالتالي يمكننا التوصل إلى معرفته معرفة يقينية بواسطة مناهج العلوم الطبيعية، أما ما وراء ظاهر الأشياء أو عالم (الأشياء ذاتها) فلا يمكن للعقل النظري أن يعرف موضوعاته بشكل يقيني قاطع.
ولذلك كل قضايا الميتافيزيقا التقليدية مثل وجود الله والدين والأخلاق وماهية النفس ومصيرها..الخ، كل هذا القضايا رأى "كانط" أنه طالما عجز العقل النظري عن معرفتها، فيتوجب على العقل العملي التسليم والإيمان بها، بالرغم من عدم توفر أدلة قاطعة بشأنها، لأن حياتنا بدونها تستحيل.
مع الفلسفة المعاصرة وفي ظل كل هذه التطورات، أضحى الكلام عن نموذج المعرفة القائم على "التأويل" نموذج معرفة لا يدعي بأي حال اليقين والقطعية.
بل على العكس تماما، يرى أنه يتأسس على معرفة احتمالية نسبية قابلة للتطور والتعديل والحذف والإضافة.
باختصار معرفة ليست لديها قدسية، بل هي باستمرار قابلة للقراءة وإعادة القراءة، قابلة للتأويل وإعادة التأويل.
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=293058
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق