قراءة في مآسي الأسهم
الخميس 15 ربيع الأول 1427 الموافق 13 إبريل 2006 د. فهد بن عبدالرحمن اليحيى
لم يفق الناس بعد من مأساة الأسهم قريبة العهد حتى حدثت هذه الهزة الجديدة ...
لست محللاً اقتصادياً ولا خبيراً مالياً ولا (هاموراً ) ولكني في جلسة تأمل كتبت شيئاً لعله يضيف جديداً أو يدعو إلى المراجعة .
ثمة أسباب منظورة وأخرى غير منظورة ، وأسباب للهبوط الأول دون الثاني ، وأسباب يؤمن بها الجميع وأسباب قد لا يعتبرها إلا قلائل ، بيد أني سأشير إلى كل منها دون قصد الاستيفاء وما توفيقي إلا بالله :
1) المضاربات الخيالية الحادثة على أسهم شركات لا يمكن أن تصل أسهمها إلى هذا السعر مهما بالغنا بالمقاييس الطبيعية إما لأنها دون هذا المستوى أو أنها شبه خاسرة ، هذه المضاربات أحدثت ورماً وانتفاخاً غير طبيعي كان المحللون ينتظرون انفجاره في أية لحظة .
ولا يخفى من وراء تلك المضاربات ليمتص دماء الضحايا الذين يتهافتون كالفراش .
2) أسلوب النجش المنظم والجماعي ( أيضاً في بعض الحالات ) وصوره كثيرة، لكن يجمعها أن يشتري المستثمر السهم قاصداً رفع سعره لبيعه مرةً أخرى ، أو لا يشتري رغبةً في السهم ذاته أو تربصاً بارتفاع السوق الطبيعي ، وإنما بطرق مختلفة مؤداها إيهام الناس بأن الشركة مرغوبة، وقد يتخذ أسلوب الشراء الوهمي من محفظة إلى أخرى لشخص واحد أو( عصابة واحدة ) أو اتفاق ( العصابة ) على الشراء إلى سقف معين ثم البيع دفعة واحدة وقد نهى النبي –صلى الله عليه وسلم- عن النجش كما في البخاري ومسلم ، ولا يتورع مثل هؤلاء عن إثارة شائعات عن طريق وسائل متعددة ( الانترنت ، المجالس والسوا ليف ، وغيرها ) لتخدم أسلوب النجش المشار إليه .
3) هرولة أكثر الناس في مجال الأسهم بلا وعي ولا تروي ، بل تسيّرهم الشائعات والمبالغات، حتى إن أغلبهم لا يعرف حقيقة الشركة التي يشتري أسهمها ، ويكتفي بمجرد مقارنة الأسعار، حتى غدا التداول في بعض أحواله كالقمار ، وفي الفقه الإسلامي أن الجهل بالمبيع نوع من الغرر المنهي عنه كما في الصحيحين " نهى النبي –صلى الله عليه وسلم- عن بيع الغرر".
4) فتنة الأسهم أعمت طائفة من الناس ( أرجو ألا يكونوا أكثرية ) عن السؤال عما يباح من الأسهم وما لا يباح ، . والله عز وجل قد قال : "فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ" [النحل:43].
كما أنها أيضاً جرّأت طوائف أخرى على تتبع الفتاوى التي تناسبهم، حتى وإن لم يقتنعوا بها في قرارة أنفسهم، وقد حذر العلماء قاطبةً من التشهي في إتباع الفتاوى وملاحقة الأسهل ، قال ابن عبد البر : "لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً" ، وقال الإمام أحمد :" لو أن رجلاً عمل بكل رخصة كان فاسقاً" وقال الغزالي : "لا يجوز للمستفتي أن يأخذ بمذهبٍ بمجرد التشهي، أو أن ينتقي في كل مسألة أطيبها عنده".
ولعلي في مقال لا حق، أو بحث، أتناول بعض المسائل في الأسهم بشكل أكثر تفصيلاً ، ولكني أنبه هنا إلى ما في الصحيحين : عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال : "إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ".
لو تأملنا في قوله -صلى الله عليه وسلم- " الحلال بيّن والحرام بيّن .." وربطناه أيضاً بقوله-صلى الله عليه وسلم- " الإثم ما حاك في نفسك " أي ترددـ وقوله –صلى الله عليه وسلم- " استفت قلبك ..." لأدركنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد وضع لنا ميزاناً دقيقاً سهل الاستخدام سريع النتائج، ولكنه يحتاج من المسلم صدقاً مع نفسه حتى تخرج النتيجة مطابقة ، وإلا أصبح كمن يُدخل معلومات خاطئة إلى برنامج جيد فالنتيجة قطعاً لن تخرج صحيحة، والخلل في الإدخال وليس في البرنامج .
ثم لو تأملنا في قوله " وبينهما أمور مشتبهات ..... " فقد حذرنا النبي –صلى الله عليه وسلم- من الوقوع في الشبهات بأن ذلك وقوع في الحرام .
وكثير من الناس لو سألته عن بعض الأسهم مع أخذه بقول من يرى الإباحة إلا أنه سيعترف لك بأن فيها شبهة ، وهكذا من أفتاه بذلك يرى كثير منهم أن فيها شبهة .
5) بناءً على ما تقدم، يمكن أن ننظر إلى ما حدث من منظور آخر كما في قوله تعالى : "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" [الروم:41] وقوله سبحانه وتعالى : "أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [ آل عمران:165] فإذا كان الصحابة رضي الله عنهم أصيبوا في أحد بسبب مخالفةٍ واحدة، فينبغي أن نرفع مستوى الحسّ الإيماني لدينا بحيث نتهم أنفسنا لا لتحطيمها ولكن لتصحيح ما عسى أن نكون أخطأنا فيه كما في الصحيحين " كل ابن آدم خطَّاء وخير الخطّائين التوّابون" ، لذا لا نستبعد أن يكون ما حدث نوع من الابتلاء من أجل أن نعود وننظر في أحوالنا ، مع العلم أن الله تعالى قد يعاقب بعض الناس بذنب لو عمله آخر لم يعاقبه به، وذلك لكون الأول أعلم بحرمة هذا الذنب من الثاني، أو لغير ذلك من الاعتبارات ، وقد قال الله تعالى في شأن أزواج النبي –صلى الله عليه وسلم- : "يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا" [الأحزاب:30].
6) إن احتكار الوساطة في الأسهم ( المحافظ ) لدى البنوك، ثم احتكار صناديق الاستثمار لديها أيضاً، جعل السوق غير متوازن ، فكيف يكون البنك وسيطاً ومستثمراً في وقت واحد ؟! ربما كان هذا سبباً فيما حدث حين الهبوط؛ لكنه أيضاً في حالة الارتداد كان سبباً لحسرة صغار المستثمرين إذ إن الصناديق الاستثمارية استحوذت على الشراء حتى لا يستطيع كثيرون تنفيذ أوامرهم ( بوسائط متعددة )، والاحتكار مما نهى الشرع عنه بكل صوره .
7) كما أن البنوك أيضاً كان لها أسلوب آخر له سلبياته في سوق الأسهم، حيث إن التسهيلات التي تمنحها البنوك أغرت مجموعة ممن لا مال لهم أن يستثمروا من غير خط رجعة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد كان أسلوب هذه التسهيلات في حال الخسارة بالغ الخطورة على هؤلاء المغررّ بهم، حيث إن البنك يسحب مبلغ القرض في هذه الحال (وهو ما يسمى تسييل المحفظة) ، وهذا الإجراء من جميع البنوك، إلى جانب إضراره بالمقترضين، كذلك أضر بالسوق، لأنه دفع بالانهيار إلى التسارع، كمثل كومة الحصى حين تبدأ بالانهيار يجر بعضها بعضاً .
ومما يشاد به في الهبوط الأول، توقف بنكي الراجحي والبلاد عن هذا الإجراء، حفاظاً على أموال المستثمرين .
8) وقبل أن نتجاوز البنوك فإن التأخر في تنفيذ الأوامر لديها من أسباب الخلل في أداء السوق، ومن ثم الاضطراب الذي ينعكس اضطراباً نفسياً، ولا يخفى مدى تأثير العوامل النفسية دائما في ميزان سوق الأسهم وتداعياته ، وللأسف فإن كثيراً من البنوك لا تعير ذلك اهتماماً كبيراً لأن لسان حالها يقول : أمطري حيث شئت فسوف يأتيني خراجك .
9) لقد كان للأسهم سحرها الذي دفع عدداً لا يستهان به من المتعاملين فيها إلى جمع أي مبلغ للدخول به بأية وسيلة، فمن الاقتراض المشار إليه سابقاً إلى التورّق إلى بيع الضروريات ..... إلى غير ذلك .... إن سوقاً يشكل أمثال هؤلاء فيه عدداً مؤثراً، لا شك أنه سوق فاقد لأساسيات الاستقرار والعرض والطلب الطبيعية، وهو كالبناء الهش يتأثر سريعاً بأية هزة، لأن مثل هؤلاء يستثمرون بروح المتلهّف المتخوّف، الذي ينتابه الهلع في أسرع لحظة، كما أن التهالك في سبيل الاستثمار والاستكثار مع التقصير في الضروريات والواجبات هو أيضاً في الشرع من المحذورات .
10) قال الله جل وعلا : "يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ" [البقرة:276]، إن المحق للمال له صور كثيرة، ليس محق البركة إلا واحداً منها، لذا فإن سوق الأسهم بل والاقتصاد كله ينبغي أن يُراجع في ضوء هذه الآية .
كم من الناس دخل سوق الأسهم عن طريق التسهيلات البنكية التي أشرنا إليها مع اتفاق الفقهاء المعاصرين على تحريمها لأنها قرض ربوي مهما كان مسماه أو اختلاف صوره ( إلا قليلاً من البنوك ولا تخلو من المخاطرة والشبهة ) . وكم من الناس لا يتورع عن شركات متفق على نسبة الربا العالية فيها ، وتحريمها . وكم من الناس يتساهل في غير ذلك .
11) إن من أهم ما يجعل التعامل في السوق يتم بهذا الشكل الغريب، هو عدم العناية بالأرباح لدى الشركات ومن ثم لدى المستثمرين، وكان ينبغي متابعة الشركات في توزيع أرباح حقيقية دورية ، وحينئذ سينظر المساهمون لهذه الأرباح وستأخذ حيزا كبيراً في تقدير الأسهم وتعتدل النظرة ولو جزئيا ، وهذه الأرباح المشار إليها من حق صاحب السهم، ولا يجوز بحال حرمانه من هذا الحق، ولا بخسه إياه، ولا المماطلة فيه.
12) يتحدث كثيرون عن دور هيئة السوق، وعن قراراتها، وتوقيت تلك القرارات وما إلى ذلك، ولن أستطرد في تحليل ذلك ؛ ولكن لا أحسب مثل هذه الهيئة التي أصبحت محط أنظار الناس وترقبهم لما يصدر عنها وأثر ذلك على الاقتصاد إلا ستدرس كل قرار بملابساته وتوقيته، وستشرك أهل الاختصاص وتستفيد من مرئياتهم، وتراعي الأمور من جميع جوانبها .. فإن فعلت ذلك، واجتهدت حقاً بكل آليات الاجتهاد، فلا تلام في قدر لا يد لها فيه ..
13) نعم مما يدعو للاستغراب أن لائحة شروط التسجيل والإدراج التي أصدرتها الهيئة، نصّت في المادة الثامنة منها من شروط إدراج الشركة في سوق الأسهم : فقرة (ج) يجب أن يكون مقدم الطلب قد أعلن قوائمه المالية المراجعة عن السنوات المالية الثلاث السابقة على الأقل، وأن يكون تم إعدادها وفقاً لمعايير المحاسبة الصادرة عن الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين ..
ومع ذلك نرى التسارع في إدراج الشركات ، وهذا بدوره يؤثر على خلق المضاربات على أسهم لم تتمكن بعد كما حدث في أزمة المناخ المعروفة في الكويت حيث كان هذا من أسبابها، ولذا نصّت لائحة سوق الكويت فيما بعد على مرور سنتين ربحيتين على الشركة قبل إدراجها، ولم تترك ثغرة الاستثناء التي تركتها هيئة السوق السعودية حيث استثنت من المادة السابقة بقولها : "ويجوز للهيئة في أحوال استثناثية أن تقبل قوائم مالية لفترة أقصر من ثلاث سنوات مالية إذا كان في ذلك تحقيق مصالح مقدم الطلب والمستثمرين "، وهذا استثناء ينبغي للهيئة إعادة النظر فيه كثيرا.
14) يقول أحد الفلاسفة "إن الذين لا يستطيعون تذكر التاريخ محكوم عليهم بتكراره " فهلا اعتبرنا بمن سبقنا....فقد كان من أسباب الانهيار للسوق الأمريكية سنة 1929 وكذلك الانخفاض الحاد عام 1962 الإفراط في المضاربة، والارتفاع غير الاعتيادي في معدل السعر، ويسمى أحياناً بمضاعف سعر السهم ( القيمة السوقية منسوباً إلى الأرباح الموزعة على ذلك السهم وبالتالي ارتفاع النسبة ) .انظر كتاب التحليل الاقتصادي ص34 ، كتاب دليل التعامل في سوق الأسهم لمايكل سينسير ص94.
ويقول هذا الأخير في وصف هذا الانهيار: وبعد سلسلة من التوقفات , والانطلاقات المخفية انهار السوق في النهاية في 24 أكتوبر 1929 . وتلاشى ما يزيد على 10 مليارات دولار من أموال المستثمرين قبل ظهر ذلك اليوم . وتجمعت حشود هائلة من المستثمرين الغاضبين , والمذعورين في قاعة الزوار في بورصة نيويورك لمشاهدة الفشل التام . وبحلول الظهر كان السوق في حالة " موت حلزوني " حيث كان المستثمرون في كل أنحاء العالم مذعورين بسبب حجم الخسارة المالية .
وبحلول 29 أكتوبر 1929 كانت جميع أرباح السوق عن العام السابق قد تبددت . وفي النهاية هبط السوق 89 % بعد أن حقق أقصى ارتفاع له في عام 1929 وهو 381 نقطة ، وبعد الانهيار حاول رجال الاقتصاد اكتشاف الخطأ الذي حدث . وكان من الواضح أن العديد من الناس لم يدركوا الإشارات الدالة على الارتفاع غير الحقيقي للأسعار في السوق , فمثلاً كانت نسبة السعر مقابل الربح في العديد من الأسهم مرتفعة , وأبعد بكثير مما كان يعتبر " منطقة آمنة "
ويقول أيضاً : نظراً لحجم التعامل المنخفض على الأسهم الرخيصة فإنها تصبح الاستثمار المفضل لدى عديمي الأخلاق الذين يعملون في شركات الوساطة التي تتبع أساليب ضغط ملتوية ( boiler rooms) يتم فيها استئجار مجموعة من الناس لإقناع آخرين ممن ليس لهم بهم سابق معرفة هاتفياً بشراء أسهم لا قيمة لها تقريباً . وعندما يرتفع سعر السهم (بسبب دفع الناس وحثهم على شراء الأسهم ) فإن عاملي شركات الوساطة هذه يقومون ببيع أسهمهم بربح كبير . وعندما تريد بيع أسهمك يكون الوقت قد تأخر جداً , ومن المتوقع أن يكون احتمال أن تخسر معظم أو كل استثماراتك كبيراً جداً .
http://islamtoday.net/bohooth/artshow-34-7101.htm
الخميس 15 ربيع الأول 1427 الموافق 13 إبريل 2006 د. فهد بن عبدالرحمن اليحيى
لم يفق الناس بعد من مأساة الأسهم قريبة العهد حتى حدثت هذه الهزة الجديدة ...
لست محللاً اقتصادياً ولا خبيراً مالياً ولا (هاموراً ) ولكني في جلسة تأمل كتبت شيئاً لعله يضيف جديداً أو يدعو إلى المراجعة .
ثمة أسباب منظورة وأخرى غير منظورة ، وأسباب للهبوط الأول دون الثاني ، وأسباب يؤمن بها الجميع وأسباب قد لا يعتبرها إلا قلائل ، بيد أني سأشير إلى كل منها دون قصد الاستيفاء وما توفيقي إلا بالله :
1) المضاربات الخيالية الحادثة على أسهم شركات لا يمكن أن تصل أسهمها إلى هذا السعر مهما بالغنا بالمقاييس الطبيعية إما لأنها دون هذا المستوى أو أنها شبه خاسرة ، هذه المضاربات أحدثت ورماً وانتفاخاً غير طبيعي كان المحللون ينتظرون انفجاره في أية لحظة .
ولا يخفى من وراء تلك المضاربات ليمتص دماء الضحايا الذين يتهافتون كالفراش .
2) أسلوب النجش المنظم والجماعي ( أيضاً في بعض الحالات ) وصوره كثيرة، لكن يجمعها أن يشتري المستثمر السهم قاصداً رفع سعره لبيعه مرةً أخرى ، أو لا يشتري رغبةً في السهم ذاته أو تربصاً بارتفاع السوق الطبيعي ، وإنما بطرق مختلفة مؤداها إيهام الناس بأن الشركة مرغوبة، وقد يتخذ أسلوب الشراء الوهمي من محفظة إلى أخرى لشخص واحد أو( عصابة واحدة ) أو اتفاق ( العصابة ) على الشراء إلى سقف معين ثم البيع دفعة واحدة وقد نهى النبي –صلى الله عليه وسلم- عن النجش كما في البخاري ومسلم ، ولا يتورع مثل هؤلاء عن إثارة شائعات عن طريق وسائل متعددة ( الانترنت ، المجالس والسوا ليف ، وغيرها ) لتخدم أسلوب النجش المشار إليه .
3) هرولة أكثر الناس في مجال الأسهم بلا وعي ولا تروي ، بل تسيّرهم الشائعات والمبالغات، حتى إن أغلبهم لا يعرف حقيقة الشركة التي يشتري أسهمها ، ويكتفي بمجرد مقارنة الأسعار، حتى غدا التداول في بعض أحواله كالقمار ، وفي الفقه الإسلامي أن الجهل بالمبيع نوع من الغرر المنهي عنه كما في الصحيحين " نهى النبي –صلى الله عليه وسلم- عن بيع الغرر".
4) فتنة الأسهم أعمت طائفة من الناس ( أرجو ألا يكونوا أكثرية ) عن السؤال عما يباح من الأسهم وما لا يباح ، . والله عز وجل قد قال : "فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ" [النحل:43].
كما أنها أيضاً جرّأت طوائف أخرى على تتبع الفتاوى التي تناسبهم، حتى وإن لم يقتنعوا بها في قرارة أنفسهم، وقد حذر العلماء قاطبةً من التشهي في إتباع الفتاوى وملاحقة الأسهل ، قال ابن عبد البر : "لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً" ، وقال الإمام أحمد :" لو أن رجلاً عمل بكل رخصة كان فاسقاً" وقال الغزالي : "لا يجوز للمستفتي أن يأخذ بمذهبٍ بمجرد التشهي، أو أن ينتقي في كل مسألة أطيبها عنده".
ولعلي في مقال لا حق، أو بحث، أتناول بعض المسائل في الأسهم بشكل أكثر تفصيلاً ، ولكني أنبه هنا إلى ما في الصحيحين : عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال : "إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ".
لو تأملنا في قوله -صلى الله عليه وسلم- " الحلال بيّن والحرام بيّن .." وربطناه أيضاً بقوله-صلى الله عليه وسلم- " الإثم ما حاك في نفسك " أي ترددـ وقوله –صلى الله عليه وسلم- " استفت قلبك ..." لأدركنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد وضع لنا ميزاناً دقيقاً سهل الاستخدام سريع النتائج، ولكنه يحتاج من المسلم صدقاً مع نفسه حتى تخرج النتيجة مطابقة ، وإلا أصبح كمن يُدخل معلومات خاطئة إلى برنامج جيد فالنتيجة قطعاً لن تخرج صحيحة، والخلل في الإدخال وليس في البرنامج .
ثم لو تأملنا في قوله " وبينهما أمور مشتبهات ..... " فقد حذرنا النبي –صلى الله عليه وسلم- من الوقوع في الشبهات بأن ذلك وقوع في الحرام .
وكثير من الناس لو سألته عن بعض الأسهم مع أخذه بقول من يرى الإباحة إلا أنه سيعترف لك بأن فيها شبهة ، وهكذا من أفتاه بذلك يرى كثير منهم أن فيها شبهة .
5) بناءً على ما تقدم، يمكن أن ننظر إلى ما حدث من منظور آخر كما في قوله تعالى : "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" [الروم:41] وقوله سبحانه وتعالى : "أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [ آل عمران:165] فإذا كان الصحابة رضي الله عنهم أصيبوا في أحد بسبب مخالفةٍ واحدة، فينبغي أن نرفع مستوى الحسّ الإيماني لدينا بحيث نتهم أنفسنا لا لتحطيمها ولكن لتصحيح ما عسى أن نكون أخطأنا فيه كما في الصحيحين " كل ابن آدم خطَّاء وخير الخطّائين التوّابون" ، لذا لا نستبعد أن يكون ما حدث نوع من الابتلاء من أجل أن نعود وننظر في أحوالنا ، مع العلم أن الله تعالى قد يعاقب بعض الناس بذنب لو عمله آخر لم يعاقبه به، وذلك لكون الأول أعلم بحرمة هذا الذنب من الثاني، أو لغير ذلك من الاعتبارات ، وقد قال الله تعالى في شأن أزواج النبي –صلى الله عليه وسلم- : "يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا" [الأحزاب:30].
6) إن احتكار الوساطة في الأسهم ( المحافظ ) لدى البنوك، ثم احتكار صناديق الاستثمار لديها أيضاً، جعل السوق غير متوازن ، فكيف يكون البنك وسيطاً ومستثمراً في وقت واحد ؟! ربما كان هذا سبباً فيما حدث حين الهبوط؛ لكنه أيضاً في حالة الارتداد كان سبباً لحسرة صغار المستثمرين إذ إن الصناديق الاستثمارية استحوذت على الشراء حتى لا يستطيع كثيرون تنفيذ أوامرهم ( بوسائط متعددة )، والاحتكار مما نهى الشرع عنه بكل صوره .
7) كما أن البنوك أيضاً كان لها أسلوب آخر له سلبياته في سوق الأسهم، حيث إن التسهيلات التي تمنحها البنوك أغرت مجموعة ممن لا مال لهم أن يستثمروا من غير خط رجعة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد كان أسلوب هذه التسهيلات في حال الخسارة بالغ الخطورة على هؤلاء المغررّ بهم، حيث إن البنك يسحب مبلغ القرض في هذه الحال (وهو ما يسمى تسييل المحفظة) ، وهذا الإجراء من جميع البنوك، إلى جانب إضراره بالمقترضين، كذلك أضر بالسوق، لأنه دفع بالانهيار إلى التسارع، كمثل كومة الحصى حين تبدأ بالانهيار يجر بعضها بعضاً .
ومما يشاد به في الهبوط الأول، توقف بنكي الراجحي والبلاد عن هذا الإجراء، حفاظاً على أموال المستثمرين .
8) وقبل أن نتجاوز البنوك فإن التأخر في تنفيذ الأوامر لديها من أسباب الخلل في أداء السوق، ومن ثم الاضطراب الذي ينعكس اضطراباً نفسياً، ولا يخفى مدى تأثير العوامل النفسية دائما في ميزان سوق الأسهم وتداعياته ، وللأسف فإن كثيراً من البنوك لا تعير ذلك اهتماماً كبيراً لأن لسان حالها يقول : أمطري حيث شئت فسوف يأتيني خراجك .
9) لقد كان للأسهم سحرها الذي دفع عدداً لا يستهان به من المتعاملين فيها إلى جمع أي مبلغ للدخول به بأية وسيلة، فمن الاقتراض المشار إليه سابقاً إلى التورّق إلى بيع الضروريات ..... إلى غير ذلك .... إن سوقاً يشكل أمثال هؤلاء فيه عدداً مؤثراً، لا شك أنه سوق فاقد لأساسيات الاستقرار والعرض والطلب الطبيعية، وهو كالبناء الهش يتأثر سريعاً بأية هزة، لأن مثل هؤلاء يستثمرون بروح المتلهّف المتخوّف، الذي ينتابه الهلع في أسرع لحظة، كما أن التهالك في سبيل الاستثمار والاستكثار مع التقصير في الضروريات والواجبات هو أيضاً في الشرع من المحذورات .
10) قال الله جل وعلا : "يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ" [البقرة:276]، إن المحق للمال له صور كثيرة، ليس محق البركة إلا واحداً منها، لذا فإن سوق الأسهم بل والاقتصاد كله ينبغي أن يُراجع في ضوء هذه الآية .
كم من الناس دخل سوق الأسهم عن طريق التسهيلات البنكية التي أشرنا إليها مع اتفاق الفقهاء المعاصرين على تحريمها لأنها قرض ربوي مهما كان مسماه أو اختلاف صوره ( إلا قليلاً من البنوك ولا تخلو من المخاطرة والشبهة ) . وكم من الناس لا يتورع عن شركات متفق على نسبة الربا العالية فيها ، وتحريمها . وكم من الناس يتساهل في غير ذلك .
11) إن من أهم ما يجعل التعامل في السوق يتم بهذا الشكل الغريب، هو عدم العناية بالأرباح لدى الشركات ومن ثم لدى المستثمرين، وكان ينبغي متابعة الشركات في توزيع أرباح حقيقية دورية ، وحينئذ سينظر المساهمون لهذه الأرباح وستأخذ حيزا كبيراً في تقدير الأسهم وتعتدل النظرة ولو جزئيا ، وهذه الأرباح المشار إليها من حق صاحب السهم، ولا يجوز بحال حرمانه من هذا الحق، ولا بخسه إياه، ولا المماطلة فيه.
12) يتحدث كثيرون عن دور هيئة السوق، وعن قراراتها، وتوقيت تلك القرارات وما إلى ذلك، ولن أستطرد في تحليل ذلك ؛ ولكن لا أحسب مثل هذه الهيئة التي أصبحت محط أنظار الناس وترقبهم لما يصدر عنها وأثر ذلك على الاقتصاد إلا ستدرس كل قرار بملابساته وتوقيته، وستشرك أهل الاختصاص وتستفيد من مرئياتهم، وتراعي الأمور من جميع جوانبها .. فإن فعلت ذلك، واجتهدت حقاً بكل آليات الاجتهاد، فلا تلام في قدر لا يد لها فيه ..
13) نعم مما يدعو للاستغراب أن لائحة شروط التسجيل والإدراج التي أصدرتها الهيئة، نصّت في المادة الثامنة منها من شروط إدراج الشركة في سوق الأسهم : فقرة (ج) يجب أن يكون مقدم الطلب قد أعلن قوائمه المالية المراجعة عن السنوات المالية الثلاث السابقة على الأقل، وأن يكون تم إعدادها وفقاً لمعايير المحاسبة الصادرة عن الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين ..
ومع ذلك نرى التسارع في إدراج الشركات ، وهذا بدوره يؤثر على خلق المضاربات على أسهم لم تتمكن بعد كما حدث في أزمة المناخ المعروفة في الكويت حيث كان هذا من أسبابها، ولذا نصّت لائحة سوق الكويت فيما بعد على مرور سنتين ربحيتين على الشركة قبل إدراجها، ولم تترك ثغرة الاستثناء التي تركتها هيئة السوق السعودية حيث استثنت من المادة السابقة بقولها : "ويجوز للهيئة في أحوال استثناثية أن تقبل قوائم مالية لفترة أقصر من ثلاث سنوات مالية إذا كان في ذلك تحقيق مصالح مقدم الطلب والمستثمرين "، وهذا استثناء ينبغي للهيئة إعادة النظر فيه كثيرا.
14) يقول أحد الفلاسفة "إن الذين لا يستطيعون تذكر التاريخ محكوم عليهم بتكراره " فهلا اعتبرنا بمن سبقنا....فقد كان من أسباب الانهيار للسوق الأمريكية سنة 1929 وكذلك الانخفاض الحاد عام 1962 الإفراط في المضاربة، والارتفاع غير الاعتيادي في معدل السعر، ويسمى أحياناً بمضاعف سعر السهم ( القيمة السوقية منسوباً إلى الأرباح الموزعة على ذلك السهم وبالتالي ارتفاع النسبة ) .انظر كتاب التحليل الاقتصادي ص34 ، كتاب دليل التعامل في سوق الأسهم لمايكل سينسير ص94.
ويقول هذا الأخير في وصف هذا الانهيار: وبعد سلسلة من التوقفات , والانطلاقات المخفية انهار السوق في النهاية في 24 أكتوبر 1929 . وتلاشى ما يزيد على 10 مليارات دولار من أموال المستثمرين قبل ظهر ذلك اليوم . وتجمعت حشود هائلة من المستثمرين الغاضبين , والمذعورين في قاعة الزوار في بورصة نيويورك لمشاهدة الفشل التام . وبحلول الظهر كان السوق في حالة " موت حلزوني " حيث كان المستثمرون في كل أنحاء العالم مذعورين بسبب حجم الخسارة المالية .
وبحلول 29 أكتوبر 1929 كانت جميع أرباح السوق عن العام السابق قد تبددت . وفي النهاية هبط السوق 89 % بعد أن حقق أقصى ارتفاع له في عام 1929 وهو 381 نقطة ، وبعد الانهيار حاول رجال الاقتصاد اكتشاف الخطأ الذي حدث . وكان من الواضح أن العديد من الناس لم يدركوا الإشارات الدالة على الارتفاع غير الحقيقي للأسعار في السوق , فمثلاً كانت نسبة السعر مقابل الربح في العديد من الأسهم مرتفعة , وأبعد بكثير مما كان يعتبر " منطقة آمنة "
ويقول أيضاً : نظراً لحجم التعامل المنخفض على الأسهم الرخيصة فإنها تصبح الاستثمار المفضل لدى عديمي الأخلاق الذين يعملون في شركات الوساطة التي تتبع أساليب ضغط ملتوية ( boiler rooms) يتم فيها استئجار مجموعة من الناس لإقناع آخرين ممن ليس لهم بهم سابق معرفة هاتفياً بشراء أسهم لا قيمة لها تقريباً . وعندما يرتفع سعر السهم (بسبب دفع الناس وحثهم على شراء الأسهم ) فإن عاملي شركات الوساطة هذه يقومون ببيع أسهمهم بربح كبير . وعندما تريد بيع أسهمك يكون الوقت قد تأخر جداً , ومن المتوقع أن يكون احتمال أن تخسر معظم أو كل استثماراتك كبيراً جداً .
http://islamtoday.net/bohooth/artshow-34-7101.htm
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق