- رائج
تاريخ النشر: الأحد، 24 نوفمبر 2019
ابونج
بدأت فكرة محاكم التفتيش في القرن الثاني عشر الميلادي على أساس ديني
أساسه قمع كل المعارضين للمسيحية الكاثوليكية؛
للحفاظ على وحدة الكنيسة،
توسع عمل هذه المحاكم لاحقاً ليشمل اليهود والمسلمين الذين اعتنقوا المسيحية
والذين تعتقد الكنيسة أنهم ما زالوا يؤمنون بديانتهم السابقة..
محاكم التفتيش، ظهورها، تنظيمها، أحكامها، انتهاؤها، ومعلومات أوسع عنها سنتناولها في هذه المقالة.
قبل البدء بالحديث عن محاكم التفتيش لنعرّف بعض المصطلحات
الهرطقة،
تُعرف الهرطقة باللغة الإنجليزية باسم (Heresy)،
وهي أي اعتقاد أو نظرية تتعارض مع المبادئ الدينية الراسخة لاسيما وحدة الإيمان،
ويجب توافر ثلاثة شروط في المتهمين بالهرطقة
وفق ما أورد الكاتب الفرنسي ج. ويلتر في كتابه (الهرطقة في المسيحية)،
هذه الشروط هي:
(أن يكون الشخص معمَّداً في الكنيسة،
أن يكون الخطأ الذي ارتكبه من عقله يخالف ويعارض المبادئ الدينية،
أن يصر على الاستمرار في هذا الخطأ).
البدعة،
تُعرف باللغة الفرنسية باسم (Secte)،
يقصد بها مجموعة من الأفراد الذين يعتنقون أفكاراً يعتبرها الدين خاطئة،
فعلى سبيل المثال
يُعتبر الدوناتيون (نسبة إلى دونا أسقف قرطاجة في القرن الرابع الميلادي) بدعة،
فهم يرهنون صحة الأسرار الدينية بقداسة من يقدمها،
والبدعة تعتبر أقل خطورة بنظر الكنيسة من الهرطقة؛
لأن البدعة تمس الكنيسة في حين الهرطقة تمس وحدة الدين.
الكاثارية،
تُعرف باللغة الإنجليزية باسم (Catharism)،
تقوم هذه العقيدة على تصور مفاده
أن لهذا العالم إلهين (إله الخير، وإله الشر) يتصارعان منذ الأزل،
وهي بذلك تناقض جوهر المسيحية التي تقوم على وجود إله واحد،
ظهرت هذه العقيدة في القرن الثاني عشر الميلادي في جنوب فرنسا وإيطاليا.
تعريف محاكم التفتيش
تعود كلمة محاكم التفتيش إلى الكلمة اللاتينية (Inquisitio)
وتعني المحكمة التي تطبق القانون الروماني،
أما محاكم التفتيش باللغة الإنجليزية فتعني (Inquisition)
هي المؤسسات التي قامت لمحاسبة مخالفي القانون الكنسي (كالهراطقة).
تاريخ إنشاء محاكم التفتيش
إنشاء محاكم التفتيش في فرنسا وايطاليا
طلب البابا لوسيوس الثالث
إنشاء أول محاكم التفتيش في مدينة لانغدوك الواقعة جنوب فرنسا في عام 1184،
ثم أنشئت محاكم تفتيش في العاصمة الإيطالية روما في عام 1229 لمواجهة الكاثارية؛
وذلك للتحقيق في وجود معتنقين لها في الأبرشيات (الأبرشية أصغر وحدة في النظام الكنسي)،
حيث كانت الكاثارية قد انتشرت في جنوب فرنسا وشمال إيطاليا.
غير أن التحقيقات الأسقفية
أثبتت عدم فعاليتها بسبب الطبيعة الإقليمية لسلطة الأسقف
ولأنه لم يقدم جميع الأساقفة التحريات في أبرشياتهم،
فقامت البابوية بالسماح للسلطات بالقيام بهذه العملية،
وذلك من دون أن يفقد الأساقفة الحق في قيادة التحقيقات.
وفي عام 1227 عُين البابا غريغوري التاسع
أول مندوب للقضاة كمحققين في تهم الهرطقة،
وكثير منهم - ليس كلهم - كانوا من الرهبان،
وكان لدى المحققين البابويين سلطة على الجميع باستثناء الأساقفة ومسؤوليهم،
ولم تكن هناك سلطة مركزية لتنسيق أنشطتها.
لكن بعد 1248 أو 1249 عندما كتب الكتيب الأول للممارسة التحريضية
اعتمد المحققون إجراءات مشتركة،
ومن هذه الإجراءات قيام البابا إنوسنت الرابع في عام 1252
بالسماح للمحققين بتعذيب الهراطقة لإجبارهم على الاعتراف بالهرطقة،
وساهم الاضطهاد الذي مارسته محاكم التفتيش في القضاء على الكاثارية في عام 1307.
إنشاء محاكم التفتيش في إسبانيا
أنشأ كل من الملك فرديناند الثاني والملكة إيزابيلا الأولى (ملكا إسبانيا)
محاكم التفتيش الإسبانية في عام 1478،
وعلى النقيض من التحقيقات السابقة
كانت محاكم التفتيش تعمل تحت سلطة الكنيسة.
انتشرت هذه المحاكم فيما بعد في جميع المستعمرات والأقاليم الإسبانية
التي تشمل جزر الكناري، هولندا الإسبانية، مملكة نابولي (في إيطاليا)،
وجميع الممتلكات الإسبانية في شمال ووسط وجنوب أمريكا
استهدفت تلك المحاكم بالدرجة الأولى
المتحولين قسراً من الإسلام
(موريسكوس، كونفيرسوس، المور السري).
ومن اليهودية
(كونفيرسوس، كريبتو-يهود، مارانوس)،
كانت لا تزال كلتا المجموعتين تقيمان في إسبانيا بعد انتهاء الدولة الأموية في الأندلس،
وذلك للاشتباه بمواصلة تمسك أفرادهما بدينهم القديم أو العودة إليه.
إنشاء محاكم التفتيش في البرتغال
بدأت محاكم التفتيش رسمياً في البرتغال في عام 1536
بناءً على طلب الملك جْوَاو الثالث،
وقد استهدفت محاكم التفتيش البرتغالية أساساً اليهود
الذين أجبرتهم الدولة على التحول إلى الديانة المسيحية.
كما طردت إسبانيا سكانها اليهود المتحولين للمسيحية في عام 1492؛
(العديد من هؤلاء اليهود الإسبان غادروا إسبانيا إلى البرتغال
لكن في النهاية استهدفوا هناك أيضاً)،
حيث وسّعت محاكم التفتيش البرتغالية نطاق عملياتها،
بما في ذلك مستعمرات البرتغال حينها في البرازيل وأرخبيل الرأس الأخضر.
محاكم التفتيش الرومانية
أنشأ البابا بولس الثالث
مجمع المكتب المقدس لمحاكم التفتيش في عام 1542
كجماعة دائمة تعمل مع الكرادلة
(مفردها كاردينال وهي واحدة من رتب الكنيسة) وغيرهم من المسؤولين،
وكانت له مهام الحفاظ على سلامة الإيمان
والدفاع عنه ضد الأخطاء والمذاهب الكاذبة وحظرها،
بالتالي أصبح المجمع الجهاز الإشرافي للتحقيقات المحلية.
يمكن القول إن القضية الأكثر شهرة التي تناولتها محاكم التفتيش الرومانية
كانت قضية غاليليو غاليلي في 1633
(الذي دافع عن نظريته العلمية حول دوران الأرض حول شمس مركزية ثابتة، حيث اُتهم بالهرطقة).
إجراءات محاكم التفتيش
عندما يقوم محقق من محاكم التفتيش بإجراء تحقيق في إحدى المقاطعات
فإنه عادة ما يعلن فترة سماح يمنح فيها المتهمين فرصة للاعتراف بأنهم شاركوا في الهرطقة،
حيث يستخدم المحققون هذه الاعترافات لتجميع قائمة المشتبه فيهم واستدعائهم للمحكمة.
ويعتبر غياب المتهم عن المحكمة دليلاً على أنه مذنب،
وكانت المحاكمة في كثير من الأحيان معركة ذكاء بين المحقق والمتهم،
كما كان يحضر المحاكمة كاتب العدل
الذي يحتفظ بسجل للإجراءات وشهود اليمين
(سنتحدث بالتفصيل عنهم بعد قليل) الذين يشهدون على دقة السجل.
اللافت في تلك المحاكم
أنه لا يقوم أي محامٍ بالدفاع عن المشتبه بهم
خشية اتهامه أيضاً بالتشجيع على الهرطقة أو البدعة،
ولا يبلغ المشتبه فيهم عادة بما وجه إليهم من اتهامات،
كما يمكن للمتهم أن يستأنف الحكم عند البابا قبل بدء إجراءات تنفيذ الحكم،
لكن هذا ينطوي على نفقات كبيرة.
كيفية اتخاذ القرار بحق المتهمين
بعد التشاور مع المحامين الكنسيين،
يقوم المحقق بالحكم على أولئك الذين تثبت إدانتهم في خطبة عامة،
وفرض عقوبات قضائية على أولئك الذين أدينوا،
وكانت العقوبات الأكثر شيوعاً
هي الحج إلى الأماكن المسيحية المقدسة،
والغرامات المالية،
والسجن.
السجون في محاكم التفتيش
استخدمت محاكم التفتيش نوعين من السجون:
السجن المفتوح،
الذي يتألف من زنزانات بنيت حول فناء يتمتع فيه السجناء بحرية كبيرة.
السجن الصارم،
هو سجن مشدد، حيث يُحتجز السجناء في الحبس الانفرادي وهم مقيدين بسلاسل.
دور السلطات الدنيوية في معاقبة المتهمين
على الرغم من أن الهرطقة
كانت جريمة عمد في جميع دول أوروبا الغربية تقريباً،
إلا أن بعض الحكام - على سبيل المثال ملوك قشتالة وإنجلترا -
رفضوا ترخيص محاكم التفتيش، وحتى في المناطق التي كانت تعمل فيها -
في معظم أنحاء إيطاليا وفي الممالك مثل فرنسا وأراغون -
اعتمدت محاكم التفتيش اعتمادا كلياً على السلطات الدنيوية (الشرطة)
للقبض على المتهمين وتنفيذ الأحكام الصادرة بحقهم.
اعتراف المتهم بذنبه (الهرطقة أو البدعة)
إذا ما اعترف المتهم بذنبه
فغالباً يعاقب من خلال فرض الحج عليه،
وإن لم يعترف
يتم البحث عن أدلة تثبت أنه مُذنب،
من هذه الأدلة الشهود
وقد يكون من بينهم كاهن الرعية (المسؤول عن الحي أو القرية التي يعيش فيها المتهم)،
وكانت هناك أربع وسائل لحمل المتهم على الاعتراف بأنه مذنب، وهي:
الخوف من الموت، بمعنى أن يدرك المتهم أن الموت ينتظره لا محال إذا لم يعترف.
احتجازه مع تقليص وجباته الغذائية (تجويع).
زيارات الكهنة له ومحاولتهم إقناعه بالاعتراف.
ممارسة التعذيب ضد المتهم حتى يعترف،
وقد أُذن بالتعذيب للمرة الأولى من قبل البابا إنوسنت الرابع
فيما عُرف بـ"إعلان إكستيرباندا" في الخامس عشر من شهر أيار/ مايو عام 1252،
وأكده البابا ألكسندر الرابع في الثلاثين من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1259،
كما حدد البابا كليمنت الرابع في الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1265
الحد الأقصى للتعذيب ألا يسبب فقدان الحياة أو أحد أطراف الجسم أو تعريض الحياة للخطر،
فالتعذيب لا يطبق إلا مرة واحدة عندما يدين الشهود المتهم لكنه يرفض الاعتراف،
وبوجه عام
كان من المقرر تأجيل هذه الشهادة العنيفة لأطول فترة ممكنة،
ولم يسمح باللجوء إليها إلا في حالة استنفاد جميع الوسائل الأخرى،
فالقضاة لا يعلقون تماماً أهمية كبيرة على الاعترافات المستخرجة تحت التعذيب.
الشهود في محاكم التفتيش
من الناحية القانونية،
يجب أن يكون هناك شاهدان على الأقل
لا يتصف أي منهما بسوء الخلق (سيء السمعة)،
ولم تكن هناك مواجهة بين المتهم والشهود،
كما كان شهود الزور يحاكمون دون أية رحمة،
فعلى سبيل المثال
عندما يقوم أحدهم باتهام شخص آخر بالهرطقة
وثبتت براءة المتهم يتم سجن شاهد الزور مدى الحياة.
ماذا لو لم يعترف المتهم؟ ولم يكن هناك شهود ضده؟
إذا لم يكن هناك شهود أو اعتراف من قبل المتهم بأنه مذنب،
فإن عليه أن يُقْسم أمام محكمة التفتيش على استعداده للمجيء للتحقيق متى تطلب الأمر ذلك،
بالتالي فإن انتهاك اليمين يؤدي إلى اتهام الطرف المشتبه به بالهرطقة،
وإلى جانب القسَم يمكن للمحقق أن يطلب من المتهم أن يقدم كفالة مالية،
أو أن يؤمن كفيلين يقسمان أمام المحكمة بإحضار المتهم أمام المحكمة حياً أو ميتاً.
العقوبات المفروضة ضد المتهمين
معظم العقوبات التي كانت صحيحة
فهي غير مشروعة، أو بطبيعتها (صدور الحكم) أو بطريقتها (تنفيذ الحكم):
العقوبات الجيدة:
في أغلب الأحيان،
كان يتم الطلب من المذنبين القيام بعض الأعمال الجيدة،
على سبيل المثال.
المشاركة في بناء كنيسة،
أو زيارة كنيسة، أو حج
أو المشاركة في حملة صليبية،
وما شابه ذلك.
العقوبات المهينة،
مثل الغرامات الباهظة
التي خصصت عائداتها لأغراض عامة مثل بناء الكنائس، وشق الطرق،
كذلك الجلد بالقضبان أثناء الخدمة الدينية؛
وارتداء الصلبان الملونة.. إلخ،
أما أصعب العقوبات
فهي السجن، والطرد من الكنيسة كأقصى العقوبات.
انتهاء عمل محاكم التفتيش في القرنين التاسع عشر والعشرين
بعد استقلال المستعمرات الإسبانية السابقة في الأمريكيتين
تم إلغاء محاكم التفتيش فيها بين عامي 1813 و1825،
أما في البرتغال فقد ألغيت محاكم التفتيش البرتغالية في عام 1821،
وكان آخر حكم لمحاكم التفتيش في إسبانيا في عام 1834.
وبعد استعادة البابا حكم الدولة البابوية (الفاتيكان) في عام 1814
استمر في ظلها نشاط محاكم التفتيش حتى منتصف القرن التاسع عشر،
لا سيما في قضية مورتارا التي تم نشرها (1858 - 1870)،
في عام 1908
أصبح اسم المجمع "المجمع المقدس للمكتب المقدس"
الذي تغير في عام 1965 إلى "مجمع لعقيدة الإيمان"،
حيث تم الاحتفاظ به حتى يومنا هذا.
في الختام..
شكلت محاكم التفتيش وسيلة بيد الكنيسة
لمواجهة الأشخاص الذين يخرجون عن طاعتها في مرحلة كانت فيه الكلمة للكنيسة،
ومع العصور الحديثة انتهت هذه المحاكم
بعدما تم فصل الدين عن الدولة
وباتت الكنيسة مؤسسة لا تتدخل في السياسة في البلدان الأوروبية والأمريكية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق