الجمعة، 8 أغسطس 2014

إنقاذ النظام المصرفي في البرتغال من الانهيار

Healthy Bank
أ.د. محمد إبراهيم السقا

ما إن تشيع حالة من الاستقرار النسبي في أوروبا،

 حتى تنطلق الأخبار السيئة مرة أخرى لتعصف بالأسواق وبالأوراق المالية مهددة النظام المالي الأوروبي بأكمله،

 الذي ما زال يعاني هشاشة واضحة مع استمرار مشكلة الديون السيادية الساخنة في بعض الدول الأوروبية،

 على الرغم من الإشارات المطمئنة التي تأتي من وقت لآخر لتوحي أن السيئ أصبح وراء ظهورنا،

 مثل قيام مؤسسة فيتش للتصنيف الائتماني برفع درجة التصنيف الائتماني للسندات اليونانية أخيرا،

 الأمر الذي نظر إليه على أنه يمثل تحسنا جوهريا في هيكل المخاطر المحيطة بالدين السيادي اليوناني

 أكثر الديون السيادية الأوروبية سخونة.

بنك اسبريتو سانتو هو أكبر المصارف البرتغالية من حيث حجم الأصول،

 كما أنه ثاني أكبر بنك مقرض في البرتغال،

 فضلا عن أنه أحد أهم المصارف في المنطقة الأوروبية،

 ويسيطر على المصرف أسرة اسبريتو سانتو، وهو من المصارف،

 التي استطاعت تجنب المتاعب

 التي واجهتها المصارف الأخرى أثناء أزمة البرتغال الاقتصادية دون أن يطلب أية مساعدة من الدولة،

 بل إن ملاءمته المالية كانت جيدة حتى واجه المصرف خسائر ضخمة بسبب سوء إدارة المصرف.

تنبع المشكلة الأساسية للمصرف من السلوك السيئ للمالكين الرئيسيين للمصرف وهي مجموعة اسبريتو سانتو المالية،

 التي تملك 25 في المائة من أسهم المصرف، وكذلك ضعف الشفافية حول البيانات المالية للمالكين والمقترضين في ذات الوقت،

 فقد أظهرت المراجعات المحاسبية للمصرف أنه تم إخفاء خسائر ضخمة للمجموعة

 تقدر بنحو 5.7 مليار يورو في استثماراتها في أنجولا،

وكذلك حققت شركة اسبريتو سانتو الدولية خسائر تقدر بنحو 1.3 مليار يورو،

وقد فشلت شركة اسبريتو سانتو الدولية في سداد بعض المدفوعات عن قروضها للمصرف في موعدها،

وهو ما دعا مؤسسة موديز إلى تصنيف سندات المجموعة إلى درجة السندات غير المرغوب فيها Junk Bonds.

بدأت العلامات الأولية لأزمة المصرف في الظهور عندما حاول زيادة رأسماله بنحو مليار يورو في أيار (مايو) الماضي،

وذلك بهدف استيفاء متطلبات المصرف المركزي الأوروبي حول نسب رأس المال للأصول والتي تراجعت بصورة واضحة،

 الأمر الذي أدى إلى تصاعد القلق على نحو كبير حول مدى سلامة النظام المصرفي الأوروبي بأكمله،

 أكثر من ذلك فإن سوق الأسهم البرتغالي واجه تراجعا كبيرا في مؤشراته امتد أيضا إلى الأسواق الأوروبية الأخرى.

حاول بنك البرتغال المركزي تهدئة الأسواق وطمأنتها،

 وكذلك أكد البنك المركزي الأوروبي على متانة أوضاع المصرف،

 إلا أن ذلك لم يفلح في طمأنة المستثمرين والأسواق،

 واستمرت أسهم المصرف في التراجع حتى فقدت الجانب الأكبر من قيمتها،

 ففي نهاية الأسبوع الماضي

انخفضت أسهم المصرف بنسبة 42 في المائة يوم الخميس،

وبـ 40 في المائة أخرى يوم الجمعة،

 وهو ما أدى إلى إيقاف التعامل في أسهم المصرف،

ولحق ذلك انخفاض في سندات الدين البرتغالي والأسهم في أنحاء أوروبا كافة،

خصوصا أسهم المصارف،

وقد ترتب على انهيار أسهم المصرف انخفاض مؤشر رأس المال/ الأصول إلى نحو 5 في المائة، وهو أقل من الحد الأدنى الآمن،

وكنا في انتظار انطلاق أزمة جديدة في إحدى أكثر الدول الأوروبية خطورة من حيث دينها السيادي.

لقد أثبتت الأزمة المالية العالمية الأهمية الحرجة للتحرك السريع في مواجهة أية مخاطر كامنة

وعدم الانتظار لانطلاق هذه المخاطر خشية أن يترتب على انطلاقها آثار مدمرة،

 مثلما حدث طوال الأزمة،

 فقد ثبت أن تكلفة إطفاء المخاطر في مهدها أقل بكثير من تكلفتها عندما تشتعل مهددة النظام المالي،

بل واقتصادات الدول محل الأزمة،

 وقد كان من الواضح لحكومة البرتغال والاتحاد الأوروبي أن هناك حاجة ملحة للوصول إلى حل سريع لمشكلة المصرف

 حتى لا يترتب على تدهور أوضاع المصرف مخاطر نظامية تؤثر على الأسواق الأوروبية بالكامل،

 ولذلك كان على المصرف المركزي الأوروبي التحرك بسرعة

 لتجنب انطلاق أزمة أخرى تكلف دافعي الضرائب في أوروبا أموالا ضخمة

 لأغراض إنقاذ البرتغال من تبعات انهيار المصرف.

كان من الواضح أن عملية إنقاذ هذا المصرف لا بد أن تتضمن ضخ أموال لرفع رأسماله وتغطية الخسائر الرأسمالية،

 التي نجمت عن تراجع أسعار أسهمه،

 وبالفعل وبشكل سريع تم إعداد خطة إنقاذ للمصرف،

التي تتضمن سحب 6.2 مليار يورو من الأموال التي تم إقراضها للبرتغال في إطار خطة الإنقاذ

التي نفذها الاتحاد الأوروبي بالتعاون مع صندوق النقد الدولي،

من صندوق خاص لمساعدة المصارف تم إنشاؤه في 2012،

 ووفقا للخطة سيتم تبني الحل السويدي المسمى بالمصرف السيئ،

حيث سيتم تقسيم المصرف إلى مصرفين على النحو التالي:

1- المصرف السيئ Bad Bank،

 وينشأ هذا المصرف خصيصا لمهمة أساسية وهي تصفية الأصول المسمومة للبنك،

حيث سيتم تحويل هذا النوع من الأصول،

 وهي في معظمها الديون التي حصلت عليها مجموعة اسبريتو سانتو، وكذلك فرع المصرف في أنجولا

 إلى القوائم المالية لهذا المصرف،

 بينما ستستمر حملة الأسهم والدائنون الثانويون في المصرف السيئ حتى يتم تصفيته،

وذلك بهدف تخليص ميزانية المصرف الأصلي من الأصول المشكوك فيها

 والسماح للقسم الآخر من المصرف بالاستمرار في العمل بقائمة أصول نظيفة.

2- المصرف الجيد Healthy Bank،

الذي سيطلق عليه تسمية Novo Banco أي المصرف الجديد،

وسيضم كل مودعات عملاء المصرف والديون الممتازة، ومعظم الأصول الجيدة للمصرف،

وذلك لمساعدة هذا الجزء من المصرف على الاستمرار في العمل بشكل طبيعي.

بهذا الشكل سيستمر المصرف الجديد في العمل بعيدا عن التأثير السلبي للأصول المشكوك فيها على نتائج أعماله،

 بعد أن تدهورت أسعار أسهم المصرف في البورصة بصورة خطيرة،

ووفقا للخطة سيتولى صندوق مساعدة المصارف إدارة هذا المصرف الجيد ثم عرضه للبيع لاحقا،

على أن يتم استخدام عائدات البيع لإعادة سداد القرض المسحوب

 من قرض الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي الخاص بإنقاذ البرتغال.

اليوم بعد رسم هذه الخطة، فإن مخاطر حالة عدم التأكد المحيطة بالمصرف تلاشت،

حيث أصبح المصرف اليوم أكثر قوة عما سبق،

ويمكن القول

 بأن أسلوب الإدارة الجديد للمصرف سيضمن وصوله إلى شاطئ الأمان،

وأن النظام المصرفي البرتغالي بأكمله تم إنقاذه من الانهيار،

غير أن هناك نقطتين جديرتين بالاهتمام وتثيران الكثير من القلق من وجهة نظري؛

 الأولى وهي استمرار خرق قواعد الشفافية والالتزام والمساءلة في المؤسسات المالية

على الرغم من كل ما حدث أثناء الأزمة المالية العالمية،

الأمر الذي يؤكد حقيقة أن القطاع المالي ما زال في حاجة إلى جهود ضخمة لتنظيم أعماله

للتأكد من التزام مؤسساته بقواعد الشفافية

على الرغم من معارضة الكثير من قادة القطاع المالي لأي محاولات لتنظيم أعمال هذا القطاع.

أما الثانية فتتمثل في عدم مناسبة العقوبات، التي يتم تطبيقها على قادة القطاع المالي في أعقاب كل أزمة يتسببون فيها،

حيث يتم الاكتفاء حاليا بطرد المسؤولين في تلك المؤسسات،

وهو تماما ما فعله المصرف المركزي البرتغالي،

ولكن الاكتفاء بطرد المسؤولين عن مثل هذه الأعمال ليس كافيا لمنع تكرارها،

 ولا بد أن تفعل الحكومات العقوبات القانونية وتجريم مثل هذه الأعمال

 حتى يعلم قادة القطاع المالي أن ما يقومون به من أعمال تزوير للبيانات أو حجبها سينتهي بهم إلى السجن،

وليس فقدان الوظيفة، ليبدأوا في البحث عن وظيفة أخرى، ربما في مكان أفضل وبراتب أعلى.

إن نتائج ممارسات هذه الإدارات لا تؤثر عليهم،

 بصفة خاصة قد لا تسبب لهم أية خسائر مالية كونهم غير ملاك للمصارف،

 بينما يمتد الأثر إلى ملاك الأسهم والمودعين،

غير أن الأثر الأضخم هو في تبعات العدوى المالية،

 التي تنتشر في المؤسسات المالية الأخرى وفي الأسواق مع كل حالة مشابهة، التي تكلف المليارات،

وهو ما يقتضي ضرورة أن تدفع الإدارات المسؤولة الثمن من حريتها ومستقبلها عن كل إجراء غير مسؤول تقوم به.

http://www.aleqt.com/2014/08/08/article_874493.html

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق