خطف الاحتياطي الفيدرالي أنظار العالم يوم الأربعاء قبل الماضي،
عندما أعلن عن سياسته الجديدة حول برنامج شراء السندات والمعروف بالتيسير الكمي3،
حيث بدأ في تخفيض المشتريات التي يقوم بها شهريا بمعدل عشرة مليارات دولار،
وهو ما يعكس بداية التحول عن سياسات التوسع النقدي التي انتهجها منذ بداية الأزمة،
فوفقا لإعلان الاحتياطي الفيدرالي سيتم خفض مشتريات سندات الخزانة بخمسة مليارات دولار،
حيث تقتصر المشتريات الشهرية على 40 مليارا،
بينما سيتم خفض مشتريات السندات المغطاة بالرهون العقارية بخمسة مليارات،
حيث تقتصر المشتريات الشهرية على 35 مليار دولار،
وقد تم هذا التحرك في الأيام الأخيرة من رئاسة بن برنانكي للاحتياطي الفيدرالي مهندس الاستراتيجية الحالية،
وقبل أيام من تسلم الرئيس الجديد السيدة جانيت يلين
التي أعلنت تأييدها الكامل للخطوات التي اتخذها الاحتياطي الفيدرالي.
من ناحية أخرى، فإن تفاصيل الجدول الزمني للانتهاء من برنامج شراء السندات لم تحدد بعد،
وربما يتم تحديدها في اجتماع الاحتياطي الفيدرالي القادم برئاسة الرئيس الجديدة السيدة يلين.
منذ بداية تطبيق سياسة التيسير الكمي وهي تتعرض لهجوم الكثير من المراقبين،
الذين يرون أنها سياسة غير فعالة في مساعدة الاقتصاد الأمريكي على الخروج من الأزمة،
وأن هذه السياسة ذات آثار خطيرة،
خصوصا فيما يتعلق بالآثار التضخمية المتوقعة من هذا التوسع النقدي الكبير الذي ينتج عنها.
في المقابل يدافع الاحتياطي الفيدرالي عن سياساته النقدية التوسعية،
بأن عمليات شراء السندات قد ساعدت على تخفيض تكلفة الاقتراض،
ومن ثم ساهمت في زيادة مبيعات السيارات والمساكن، فضلا عن تشجيع المستثمرين على زيادة إنفاقهم الاستثماري.
على سبيل المثال أشار بن برنانكي في مؤتمر الأسبوع الماضي إلى
أن السياسة كانت تحقق أهدافها في تعزيز قدرة الاقتصاد الأمريكي على مواجهة الكساد وتحقق تقدما ملحوظا،
خصوصا في سوق العمل،
وأيا كان الحال،
فلا شك أن الفترة القادمة ستشهد دراسات مكثفة لتقييم مدى فعالية هذه السياسة
في مساعدة الاقتصاد الأمريكي على الخروج من الكساد الكبير الذي تلى الأزمة المالية العالمية.
بمجرد الإعلان عن تفاصيل اجتماع اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة FOMC،
ارتفعت أسعار الأسهم في البورصة الأمريكية إلى مستويات قياسية جديدة،
حيث بات من الواضح أن الخروج من السياسة الحالية لن يكون سريعا،
وأن عمليات تخفيض الشراء ستتم على نطاق محدود، وبشكل متدرج،
وأن معدلات الفائدة قصيرة الأجل ستستمر منخفضة حتى نهاية 2015،
وهو ما طمأن الأسواق حول مسار معدلات الفائدة،
فارتفع مؤشر ستاندارد آند بورز بنسبة 1.7 في المائة ومؤشر داو جونزبنسبة 1.8 في المائة،
كذلك ارتفع مؤشر ناسداك بنسبة 1.2 في المائة،
ويعكس ارتفاع أسعار الأسهم النظرة التفاؤلية للأسواق حول اتجاهات النمو والاستقرار في الاقتصاد الأمريكي.
من ناحية أخرى،
فإن أسعار الذهب أخذت مسارا مخالفا،
ولكن ماذا تعني هذه التحولات الأخيرة في مسار السياسة النقدية الأمريكية؟
الإجابة هي أن مضامين هذه الخطوة التي اتخذها الاحتياطي الفيدرالي تتعدد على نحو واضح
والتي يمكن تلخيصها في الآتي:
أولا:
أن الخطوة التي قام بها الاحتياطي الفيدرالي تعكس تصاعد الثقة بأداء الاقتصاد الأمريكي وتحسن مؤشراته،
بصفة خاصة في سوق العمل ومعدلات النمو الاقتصادي،
التي تشهد تحسنا واضحا قياسا بالأداء العام خلال الفترة السابقة،
فقد أشادت اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة باستقرار الاقتصاد الأمريكي،
وبأن سوق العمل قد أخذ في التحسن على النحو الذي يسمح ببدء عملية تخفيض عرض الدولار،
حيث انخفض معدل البطالة إلى 7 في المائة في الشهر الماضي،
وهو أقل معدلات البطالة المحققة خلال الأعوام الخمسة السابقة،
كما يزداد حاليا
الإنفاق الاستهلاكي،
وترتفع مبيعات السيارات،
ويرتفع الإنتاج الصناعي،
وتتزايد معدلات الاستثمار الثابت،
وهي جميعها مؤشرات إيجابية.
ثانيا:
أن التغيرات ستشمل خفضا أوليا في مشتريات السندات مع استمرار الخفض المتتالي حتى نهاية العام القادم،
والذي يتوقع عنده أن يكون الاحتياطي الفيدرالي قد توقف تماما عن شراء السندات وزيادة عرض الدولار،
وهو ما يزيل القلق الذي يمكن أن يسود نتيجة الانسحاب بسرعة من السياسة الحالية للتوسع النقدي.
ثالثا:
أكد الاحتياطي الفيدرالي على استمرار استهداف معدلات الفائدة الصفرية،
حيث سيظل معدل الفائدة المستهدف على الأموال الفيدرالية بين صفر وربع في المائة،
الأمر الذي يعني استمرار التأكيد على سياسة الائتمان الرخيص
الهادف لرفع مستويات الاقتراض وزيادة مستويات الإنفاق الاستثماري، حتى نهاية 2015.
رابعا:
جدد الاحتياطي الفيدرالي أيضا التزامه بالاستمرار في دعم سوق العمل،
طالما أن معدلات البطالة ما زالت أعلى من 6.5 في المائة،
ومكافحة التضخم إذا ما تجاوز 2.5 في المائة،
فإذا انخفضت البطالة عن هذه النسبة أو تجاوز التضخم 2.5 في المائة،
فإن الاحتياطي الفيدرالي سيقوم بالتخلي عن معدلات الفائدة الصفرية،
وحاليا يتوقع الاحتياطي الفيدرالي أن يراوح معدل البطالة بين 6.4 ـــ 6.8 في المائة بنهاية 2014.
خامسا:
أن أهم المؤشرات التي ما زالت تسير عكس التوقعات هي معدلات التضخم،
حيث ما زال الاقتصاد الأمريكي يحقق معدلات منخفضة
بلغت في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي 0.7 في المائة على أساس سنوي،
الأمر الذي يعكس حقيقة
أن الاقتصاد الأمريكي ما زال يعمل عند مستويات تقل عن المعدلات الكامنة،
بل إن التوقعات المنشورة للاحتياطي الفيدرالي تشير إلى
أنه لا يتوقع أن يتجاوز معدل التضخم نسبة 2 في المائة خلال السنوات الثلاث القادمة،
وهذا أحد مصادر القلق الحالي.
يذكر أن مستهدفات السياسة النقدية للتضخم هي أن يكون عند 2 في المائة،
ومع التزام الاحتياطي الفيدرالي برفع معدلات الفائدة لمحاربة التضخم،
فإنه يؤكد التزامه بالحفاظ على التضخم ضمن نطاق محدد لا يتسم بالارتفاع أو الانخفاض.
وأخيرا:
فإن عملية الخروج من الاستراتيجية التوسعية الحالية هي عملية دقيقة للغاية ولابد أن تخطط بعناية،
حتى لا تترتب على ارتفاعات معدلات الفائدة المصاحبة لانحسار عرض النقود
آثار سلبية في استعادة النشاط الاقتصادي والخروج الآمن من الكساد،
ولكن هل يعني ذلك أن حقبة التوسع النقدي في الولايات المتحدة قد قاربت على الانتهاء؟
يمكن الإجابة بقدر كبير من الثقة بنعم،
إلا إذا تحولت اتجاهات النمو في الاقتصاد الأمريكي على نحو مفاجئ، عندها سيعاود الاحتياطي الفيدرالي الكرة،
ويبدأ من جديد برنامجه لشراء السندات، وهو أمر غير متوقع، على الأقل في الوقت الحالي.
لا شك أن هذا التحول يعني انطلاق حقبة جديدة في السياسة النقدية الأمريكية،
وأن سياسة الدولار الرخيص ربما تكون قد قاربت على الانتهاء،
لتبدأ الخطوات الأولى في تنفيذ ما يسمى استراتيجية الخروج من السياسة الحالية،
التي من الواضح أنها ستستغرق وقتا حتى يستعيد عرض الدولار مستوياته قبل الأزمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق