أرض الرافدين والحضور الروماني قبل الإسلام
حبيب محمد هادي الصدر
شهدت ارض الرافدين منذ القرن الاخير الذي سبق ميلاد السيد المسيح "ع"
ولغاية ابصارها لطلائع الفتح الاسلامي في غضون القرن السابع الميلادي
صراعات مريرة ومواجهات ساخنة بين قوتين عظيمتين
متمثلتين
بالامبراطورية الفارسية الفرثية ثم الساسانية من جهة
وبين الامبراطورية الرومانية ثم البيزنطية من جهة ثانية
بهدف بسط السيطرة على هذه البلاد الحيوية والرائدة
وحرمان القوة المنافسة الاخرى من مزاياها الفريدة
حيث وعت القوتان ما يمثله العراق من ثقل
باعتباره قلب العالم النابض ومستودع ثرواته ومهبط رسالاته.
ولقد بذل الفرس غاية مجهودهم للاحتفاظ بالعراق ودرء الاطماع الرومانية عنه طوال الفترة المذكورة
ولعل اصرارهم على اختيار منطقة (المدائن) العراقية لتاسيس عاصمتهم (طيسفون) بمحاذاة نهر (دجلة)
اكبر دليل على حرصهم الجم على التشبث بالعراق وعدم التفريط به في مواجهة تربصات خصمهم الروماني اللدود الذي ما فتا يتحين الفرص لانتزاع (العراق) من قبضتهم.
ولكي يتخذوا منه منطلقا لجيوشهم لغزو ممالك الرومان في بلاد الشام واسيا الصغرى وارمينيا ومصر اختزالا للوقت وتوفيرا للجهد والمسافة مما يغنيهم عن اتخاذ عاصمة بديلة في بلاد فارس البعيدة عن خط التماس.
ولقد نجح الفرس الفرثيون ومن بعدهم الساسانيون في الاستحواذ على العراق لاطول فترة ممكنة متغلبين في اغلب المرات على الجيوش الرومانية ابتداء من انتصار الملك الفرثي (اورود) على(كراسوس) قائد الامبراطور الروماني (يوليوس قيصر) وواليه على سوريا في معركة (حران) بتاريخ (53 ق.م) ومصرعه فيها
ثم سحقهم لمحاولة الامبراطور الروماني (ماركوس انطونيوس) لغسل عار الهزيمة عام (37 ق.م )
حتى قدّر للامبراطور الروماني (تراجان) النجاح في السيطرة على العراق واحتلال (بابل) عام (114م)
اذ قام بتهجير من كان فيها من اليهود مخافة تحالفهم مع الفرس مستوليا كذلك على العاصمة (طيسفون) ومقسما العراق الى ولايتين الاولى (ولاية اشور) الشمالية والثانية (ولاية بلاد ما بين النهرين) الجنوبية
زاحفا بجيوشه جنوبا حتى شارف شواطئ الخليج العربي متطلعا الى غزو بلاد الهند والصين
احتذاء بما فعله (الاسكندر المقدوني) من قبل
ثم انعطف شمالا لحصار مملكة (الحضر) جنوب الموصل الا انه لم يفلح لاستبسال اهلها وبراعة ملكها العربي (سنطرق الثاني) فيما ظلت عصية كذلك على الامبراطور (سيفروس) حين عاود الكرة عليها فيما بعد.
ولم يمهل الفرس (تراجان) طويلا للتمتع بنشوة الظفر بالعراق اذ لم تمض سنتان او اكثر بقليل حتى مني جيشه على ايديهم بخسارة فادحة في معركة (نصيبين) الشهيرة عام (116) للميلاد بعد استجماع قواهم بسرعة قياسية.
وقد تزامنت هذه الانتكاسة الرومانية مع اندلاع احداث (ثورة اليهود الكبرى) التي هزت فلسطين وبلاد الشام ومصر عام (115) للميلاد
واشعل شرارتها الاولى احد شيوخهم واسمه (شمعون باركو خيا) احتجاجا على قرار الامبراطور الروماني (هادريان) الذي خلف (تراجان) القاضي بمنع اليهود من ممارسة اهم طقوسهم الدينية وهو (الختان).
مما الجأته هذه الظروف الاستثنائية الى سحب الجيوش الرومانية من (العراق) عام (117) للميلاد.
بعد ان املت عليه خيار الصلح مع اعدائه الفرثيين ذاك الذي سار به على خطى سلفه الامبراطور (اغسطس) الذي رسم لمن ولي بعده منهجا سمي بــ (السلام الاوغسطي الروماني) ليحققوا به ما تعجز الوسائل الحربية عن تحقيقه.
وعندما استطاع الرومان من سحق ثورة اليهود على نحو ماساوي ومريع ومبرم عام (135) للميلاد فضلا عن اعادة تدعيم اركان امبراطوريتهم الرومانية،
استيقظت احلام اباطرتهم باعادة العراق الى الحضيرة الرومانية بعد ان تلمسوا عن كثب بذاخة تراثه واطلعوا على غزارة موارده.
حيث قاد (كاسيوس) جيشا رومانيا جرارا لغزو العراق مرة اخرى عام (165) للميلاد اذ تمكن من الاستيلاء على عاصمة الفرس الفرثيين (طيسفون).
لكن انتشار وباء (الطاعون) في صفوف الجيش قد حال دون تحقيقه نصرا كاسحا، اذ سرعان ما استرجع الفرس عاصمتهم من قبضة الرومان عام (166) للميلاد.
وشاءت الاقدار ان يظل الفرس الفرثيون جاثمين على صدر العراق دون ان يحقق الرومان تواجدا على ارضه لغاية سقوط دولتهم في عهد ملكهم (ارطبان الخامس) على يد (اردشير) مؤسس (الدولة الفارسية الساسانية) عام (226) للميلاد.
حيث اتخذ خلفه (شابور الاول) عام (241) للميلاد (طيسفون) عاصمة شتوية لدولته
ويعتقد انه هو الذي بنى (طاق كسرى) كما اكتسح مملكة الحضر عام (270) للميلاد.
وفي غضون ذلك كان الامبراطور الروماني (جاليريوس) يتحين الفرصة المناسبة للانقضاض على (العراق) اذ تمكن في عام (297) للميلاد من هزيمة غريمه الفارسي (نارسيتي) في معركة (كالينيكوم).
وفي عام (310) للميلاد ولي الحكم الملك الساساني (شابور الثاني) الملقب بــ (ذي الاكتاف)
الذي دام حكمه سبعين عاما
انتصر خلالها على الامبراطور الروماني (قسطنطين) في معركة قرب (سنجار)العراقية عام (348) للميلاد مستوليا على العديد من الحصون والقلاع الرومانية،
متوسعا شرقا حتى فتح (الصين) مشيعا فيها الثقافة الفارسية ،
بيد ان الامبراطور الروماني (جوليان) الذي عرف بارتداده عن المسيحية قد استغل هذا الانشغال الفارسي في الفتوحات الشرقية
فباغت الساسانيين بجيش عرمرم استولى به على مدن الفرات ونصيبين حتى نزل في (بابل) العراقية ثم حاصر (طيسفون)
فاضطر (شابور الثاني) للعودة سريعا لملاقاة (جوليان) الروماني في معركة طاحنة دارت رحاها قرب جبال (حمرين) العراقية انكسرت فيها شوكة الرومان وقتل فيها امبراطورهم (جوليان)
فاعاد (شابور الثاني) بسط هيمنته على كامل الاراضي العراقية علاوة على (ارمينيا) و(القلاع الشمالية) و(ديار بكر) و(نصيبين) وذلك بحدود عام (363) للميلاد.
وخلفه (يوفيانوس) الذي تصالح مع (شابور الثاني) ثم عاد الى (انطاكيا)وقد اشتهر الاخير باضطهاده الاربعيني لرعاياه المسيحيين الذي دام اربعين عاما للفترة من (340 ولغاية 379) للميلاد
اذ اعتبرهم عملاء لخصومه الرومان الذين تحولوا من (الوثنية) الى (المسيحية)،
فساق الى الموت اكثر من (160) الف مسيحي بضمنهم الجاثليق العراقي (مار شمعون برصباعي)، فضلا عن تهديمه للعديد من الكنائس والاديرة.
وبقي العراق طوال حكم خلفاء (شابور الثاني) بمناى عن مطامح الرومان واعني بهم الملك الساساني (كسرى انو شروان) الذي حكم للفترة من (531 ولغاية 579) للميلاد ،
وولد في زمانه نبينا محمد "ص"
ثم (كسرى الثاني ابرويز) الذي حكم للفترة من (590 ــ 628) للميلاد وهو الذي رفض دعوة الرسول "ص" لاعتناق الاسلام
اذ كان يعيش ذروة انتصاراته على الروم البيزنطيين وملكهم (فوكاس) واحتلاله الشامل لممالكهم في بلاد الشام ومصر ومحاصرته لعاصمتهم (القسطنطينية)
وهو الذي قام قائده (شهر باراز) عام (614) للميلاد باقتحام (القدس) وتدمير كنيسة القيامة والاستيلاء على (الصليب المقدس) وازهاق ارواح ما يقرب من (57) الف مسيحي بمؤازرة من حلفائه اليهود.
الا ان الامبراطور البيزنطي (هرقل) استطاع ان يقلب هذه المعادلة جذريا بزحفه الى (المدائن) العراقية بجيش كبير ايام الملك الساساني (شيرويه) عام ( 628 م) ، مرغما اياه على قبول (الصلح) منتزعا منه كل ما خسره الروم من ممالك.
وشاء الله "جلت قدرته" ان يقوض ملك الساسانيين في العراق ويهزم ملكهم (يزدجرد الثالث) ويهلكه بسيوف المسلمين الفاتحين عبر معركة (القادسية) عام (637 م) ثم معركة (نهاوند) عام (642 م) وانهارت بمصرعه الامبراطورية الساسانية التي دام احتلالها للعراق اكثر من اربعة قرون.
اما (هرقل) فترافقت هزيمته ايضا مع هزيمة الفرس امام المسلمين في معركة (اليرموك) وانفلتت من قبضته بلاد الشام ومصر وشمال افريقيا، اذ دخل معظم اهلها الدين الاسلامي واصبحت جزءا لايتجزأ من الدولة الاسلامية.
ما ال الى انحسار الامبراطورية البيزنطية وافول نجمها تدريجيا حتى سقطت عاصمتها (القسطنطينية) على يد المسلمين العثمانيين بقيادة السلطان (محمد الفاتح) في عام 1453 للميلاد.
وعلى قصر مدة حكم الرومان المباشر للعراق للفترة من (114 ــ 117) للميلاد ، وحضورهم المتفرق في مناطق عراقية متعددة.
فانهم قد انبهروا بحضارة (بابل) وتاثروا بالحضارة الهلنستية التي خلفها الاسكندر المقدوني والملوك السلوقيون والتي هي نتاج تلاقح حضارتي الشرق العربي المتمثلة بحضارة وادي الرافدين ووادي النيل بالحضارة الاغريقية اليونانية مقتبسين من هذا المزيج الكثير من العلوم والمعارف.
فراينا فيما بعد محاكاتهم للعمارة الشرقية في ابنيتهم اذ استخدموا الاقواس والقباب كقبة معبد الــ (بانثيون) بــ (روما) التي جعلوا قطرها (44) مترا.
كما انهم فتنوا بديانات الشرق التوحيدية السماوية ومضامينها التنويرية وعلى الاخص (المسيحية) التي كانت منتشرة على نطاق واسع في بلاد الشام والعراق منذ القرن الاول الميلادي واعتنقوها بالتدريج واحلوها محل دياناتهم الوثنية التي اتسمت بتعدد الالهة وتفاوتها من حيث المرتبة والاهمية.
اذ جعلوا كوكب الزهرة (فينوس) الها للخصب والجمال والحب والحظ فيما جعلوا الاله (مارس) الها للحرب والحامي والناصر لجيوشهم، اما كوكب (عطارد) فجعلوه حارسا لارواح موتاهم والها للتجارة والمسافرين ، اما الالهة (مينرفا) فاتخذوها الهة للحكمة والعلم والثقافة.
وفي غضون النصف الاول من القرن الرابع الميلادي تم اعتماد الديانة المسيحية كديانة رسمية للامبراطورية وانتهت بذلك الام المسيحيين الاوائل ومعاناتهم من الاضطهادات الرومانية.
اما على الصعيد الاقتصادي فان بلاد ما بين النهرين قد امدّت الرومان بصنوف مختلفة من غلتها الزراعية مما تنبته ارضها الخصبة المعطاءة،
فضلا عن معادنها الطبيعية مما اسهمت مردوداتها في ازدهار اوضاعهم الاقتصادية التي انعكست ايجابيا على عظمة وتوسع امبراطوريتهم العتيدة.
http://www.alrafidayn.com/alrafidayn/2009-05-26.html
http://www.alrafidayn.com/alrafidayn/2009-05-26.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق