رفض البرلمان القبرصي الأسبوع الماضي مقترح فرض ضرائب على المودعين في المصارف القبرصية، وذلك بعد انتشار المظاهرات ضد الخطة،
فجاء البديل الذي اقترحه الاتحاد الأوروبي أقسى وأكثر إيلاما هذه المرة،
حيث تضمنت خطة الإنقاذ البديلة لقبرص، لأول مرة،
تحميل المودعين الكبار (الذين تزيد مودعاتهم على 100000 يورو) وغير المؤمنة مودعاتهم بتكلفة عملية إعادة هيكلة المصارف القبرصية،
فأصبح بذلك مقترح فرض الضرائب على المودعات الذي رفضه البرلمان القبرصي أهون أثرا من تحميل المودعين خسائر عملية إعادة الهيكلة.
لقد تضمنت حزمة الإنقاذ الأخيرة لقبرص إعادة هيكلة أكبر مصارف قبرص ''Bank of Cyprus''،
ووفقا للتقديرات،
فإن خسائر إعادة الهيكلة ستطول نحو 19000 مودع تصل مودعاتهم إلى ثمانية مليارات يورو،
بينما المودعون غير المؤمّن عليهم في المصرف الذين تصل مودعاتهم إلى 3.2 مليار يورو سيفقدون معظم هذه المودعات،
كذلك تتضمن الخطة السماح بإغلاق ثاني أكبر المصارف القبرصية ''Cyprus Popular''، والسماح بأن يتحمل المودعون الكبار فيه خسائر عملية الإغلاق، معظمهم من المودعين الروس، حيث يستثمر هذا البنك جانبا كبيرا من أصوله في اليونان.
التقديرات الأولية للخسائر، وفقا لوول ستريت جورنال، والمتوقع أن يمنى بها المودعون في المصارف القبرصية
هي أن كبار المودعين في بنك Bank of Cyprus قد يخسرون 40 في المائة من قيمة مودعاتهم،
بينما يتوقع أن يخسر المودعون في بنك Cyprus Popular نحو 80 في المائة من مودعاتهم،
أكثر من ذلك فإن الـ20 في المائة الباقية ربما لا يتم استردادها سوى بعد سنوات من الآن.
في ظل هذه الأوضاع من المتوقع بمجرد فتح المصارف القبرصية أبوابها أن تحدث عمليات نزوح ضخمة للمودعات؛ نظرا لإغلاق المصارف القبرصية منذ 16 آذار (مارس) الماضي،
وأصبح من المؤكد أن الجزيرة تنتوي فرض قيود على خروج رؤوس الأموال؛ تحسبا لحالة النزوح المتوقعة مع فتح المصارف أبوابها،
فقد صرح وزير المالية بأن الجزيرة ستفرض قيودا على تحويلات رؤوس الأموال إلى الخارج،
وأن هذه القيود ستشمل وقف التحويلات الخارجية بما فيها التحويلات الإلكترونية، وكذلك تكثيف عمليات تفتيش المغادرين من الدولة ومصادرة أي تحويلات نقدية بصحبة الركاب.
معنى ذلك أن المودعات في المصارف القبرصية قد دخلت مصيدة قبرص،
وأنها ستظل هناك حتى يسمح بتحويل رؤوس الأموال مرة أخرى مع استقرار أوضاع القطاع المالي
بعد عملية إعادة الهيكلة، التي ستتمخض عن إنشاء مصرف سيئ ومصرف جيد،
المصرف الجيد هو Bank of Cyprus، الذي سيتم نقل الأصول الجيدة للمصرفين فيه،
أما المصرف السيئ فسيتم تحويل الأصول المسمومة في البنكين عليه، ليتولى لاحقا عملية تحصيل قيمة هذه الأصول المسمومة وتوزيع العوائد على المودعين.
مكمن الخطر يتمثل في أن تطبيق مثل هذا الإجراء غير الاعتيادي على الحالة القبرصية
سيمهد الطريق لاستخدام الروشتة نفسها في التعامل مع المصارف الأوروبية المضطربة في الدول الأخرى،
ذلك أن اتباع أي سياسة مختلفة مع أي حالة أخرى سيثير علامة استفهام حول مدى عدالة ومصداقية الاتحاد الأوروبي في التعامل مع أعضائه، وقد تحققت ظنوني بالفعل،
فقد نقلت وكالة رويترز
أن البرلمان الأوروبي سيطالب بإصدار قانون بتحميل المودعين الكبار في المصارف المضطربة في أوروبا تكاليف أي عمليات للإنقاذ أو إعادة الهيكلة أو إعادة الرسملة تتم للمصارف الأوروبية،
وهو ما يحمل تطورا مهما في طبيعة عمل المصارف الأوروبية، فوفقا للتسريبات التي تمت حول القانون المقترح
ستكون المودعات التي تقل عن 100 ألف يورو محمية في أية عملية إنقاذ لمصرف مضطرب،
أما المودعات الأكبر من 100 ألف يور فلن تكون محمية، وسيتم التعامل معها على أنها جانب من رأسمال المصرف،
وهو ما قد يرفع مستويات المخاطر المصاحبة لفتح حسابات في المصارف الأوروبية.
إن الهدف الأساسي من القانون المقترح
هو تحميل المودعين في المصارف التي يحصلون منها على فوائد بخسائر،
وعدم تحميل دافعي الضرائب تكلفة إعادة رسملة المصارف المضطربة،
مثلما تم في الحالات السابقة لعمليات الإنقاذ التي تتم للمصارف المضطربة، والتي أثبتت التجربة أنها عملية مكلفة جدا لدافعي الضرائب،
يذكر أن الاتحاد الأوروبي كان قد قدم نحو 130 مليار دولار لإنقاذ مصارف إسبانيا وحدها،
أما في ظل النظام المقترح فلن يتحمل الاتحاد الأوروبي تكاليف عملية الإنقاذ للمصارف مرة أخرى،
وأنه سيطلب من المصارف إنقاذ نفسها أولا،
فإذا لم تتمكن فإنه سيطلب منها التحول نحو حاملي أسهمها وسنداتها (أي المقرضين لها)،
فإن لم تتمكن فسيتم التحول نحو المودعين غير المؤمّنين لتحميل مودعاتهم أي تكاليف لعمليات الإنقاذ.
بهذا الشكل ستصبح خسارة المودعين الكبار في المصارف الأوروبية إحدى خصائص هذا النظام المصرفي في أي أزمات يواجهها الجهاز المصرفي.
غير أن أسوأ النتائج التي يمكن أن تترتب على هذا التنظيم الجديد
هي أنه من الممكن أن تنشأ أزمة مصرفية في أية لحظة،
حتى ولو كانت الظروف الاقتصادية عادية والمناخ ليس مناخ أزمة،
وذلك إذا ما استشعر مودع أو مجموعة من المودعين الكبار أن هناك خطرا متصلا بنوعية هيكل أصول مصرف على النحو الذي قد يرفع من المخاطر التي يواجهها،
وهو ما ستترتب عليه عمليات سحب يمكن أن تخلق مشكلة سيولة للمصرف وتؤدي إلى إفلاسه.
كذلك ستصبح المصارف الأوروبية أكثر عرضة للشائعات التي يمكن أن تنطلق في أي لحظة عن مخاطر الأصول الخاصة بأي بنك.
لكن ما خيارات المودعين في ظل هذا التحول الجوهري في طبيعة عمل النظم المصرفية الأوروبية في أوقات الأزمات؟
أعتقد أن عملية التأمين على الودائع في المصارف الأوروبية ستصبح بعد إصدار هذا القانون أحد المكونات الأساسية للنظام المصرفي الأوروبي، خصوصا بالنسبة للمودعين الكبار،
وذلك لحماية المودعين من خسارة مودعاتهم أو جانب منها مع أي أزمة قادمة يمكن أن تتعرض لها هذه المصارف،
وهو ما يرفع من تكلفة المعاملات في المصارف الأوروبية.
من ناحية أخرى، فإن ضغط المودعين في المصارف سيلقي بأعباء على إدارات المصارف بأن تكون أكثر حرصا في المستقبل في استراتيجيات الاستثمار الخاصة بها، بحيث تتحمل مخاطر أقل لحماية مودعيها.
فإذا كان مديرو المصارف يمارسون ما يسمى
المخاطر الأخلاقية Moral hazards،
أي تبني استراتيجيات استثمارية تضر بمصالح المودعين،
وذلك استنادا إلى ضمان المساندة الحكومية في حال التعرض لأي خسائر يمكن أن تؤدي إلى زيادة مخاطر إفلاس المصرف،
فإن القانون الجديد سيحد من هذا الاتجاه أمام مديري المصارف،
حيث سيصبح المودعون، بصفة خاصة الكبار، أكثر حساسية لطبيعة القرارات والاستراتيجيات التي يتبعها المصرف،
وأن إدارة المصرف ستكون تحت رقابة لصيقة من هؤلاء؛ وذلك لتأمين مودعاتهم وكيفية استخدامها، وذلك للحد من احتمالات أن يخسروا جانبا من ودائعهم إذا ما تمت إدارة المصرف على نحو سيئ يعرضهم للمخاطر بصورة أكبر.
إن التحول في طبيعة مراقبة المودعين لأعمال المصارف سيشعل المنافسة بين المصارف في هذا الجانب،
أي المنافسة على أكثر المصارف أمانا في أوروبا،
ففي ظل النظام الجديد
ستبتكر المصارف نظاما يجعل عملاءها على وعي بطبيعة المخاطر التي تلحق بأصول البنك،
أو ستكون هناك جماعات مختارة من المودعين للتدقيق والمراقبة على أعمال البنك، غير البنك المركزي،
للتأكد من أن عملية استخدام المودعات في المصرف تتم على نحو سليم ولا تحمل مستويات من المخاطرة تهدد سلامة المودعات،
وهي مسألة ليست سهلة بالنسبة للمودعين وكذلك إدارة المصرف،
خصوصا حينما يحدث تفاوت في وجهات النظر حول طبيعة المخاطر المحيطة بأصل ما.
وأخيرا، قد يلجأ بعض المودعين إلى حيلة توزيع ودائعهم بين المصارف الأوروبية بحيث لا تزيد الوديعة الواحدة على 100 ألف يورو،
وقد تبدو هذه العملية ممكنة بالنسبة للمودع المتوسط،
لكن من المؤكد أنها ستصبح عملية مرهقة بالنسبة للمودع الكبير الذي يمتلك عشرات أو مئات الملايين،
وهو ما يرفع من تكلفة المعاملات بالنسبة لمثل هذا المودع على نحو كبير.
الخلاصة،
أنه في ظل المعالجة الأخيرة للأزمة القبرصية وتحميل المودعين خسائر عمليات إعادة الهيكلة للمصرف،
وفي ظل المقترحات الحالية بإصدار قانون يجعل من هذه المعالجة أمرا قانونيا
أصبحت المودعات غير المؤمنة في المصارف الأوروبية غير آمنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق