مصهر الانتقال من التشرذم إلى الوحدة ومن الديكتاتورية إلى الديمقراطية ومن الحرب إلى السلام
المثال الإسباني..
تاريخ النشر: الخميس 07 يونيو 2012
الطيب بشير
مؤلف هذا الكتاب “اسبانيا من الديكتاتورية الى الديمقراطية: أمثولة وقدوة” محمد عبد الكافي هو اليوم في الرابعة والثمانين من العمر، وقد أجبرته الظروف السياسية على الهجرة من وطنه تونس الى الخارج وعمل مدرسا بمدريد ومراسلا صحافيا وتم اختياره ممثلا لجمعية المراسلين الأجانب باسبانيا.
فالمؤلف عاش طويلا في اسبانيا وعرفها كأحد أبنائها، وكان شاهد عيان على التحولات الكبيرة التي عاشتها من عهد الديكتاتورية الى عهد الديمقراطية، وعنوان كتابه يوحي بمضمونه الذي تضمن سردا وتحليلا لتاريخ أسبانيا المعاصر.
وقد بذل عبد الكافي جهدا كبيرا في تقصي الحقائق والحصول على المعلومات الدقيقة من أصدق المصادر والمراجع ومن الاشخاص أنفسهم الذين عاشوا هذه الفترة من التاريخ الأسباني المعاصر.
والمطالع لهذا الكتاب الضخم يكتشف كنزا من المعلومات ويقف على تاريخ اسبانيا قديما وحديثا، ويقوم برحلة في جغرافية البلاد وفنونها وثقافتها، ويجد تعريفا بمفكريها وكتابها.
والكاتب سجل مشاهداته وأفكاره، وسعى الى مقارنة التجربة السياسية الاسبانية مع ما هو موجود في البلاد العربية، وما هي في حاجة إليه، حسب تعبير المؤلف، “من تغيير نظم، وإبدال أساليب، واتباع طرق، وتوخي سير، وتحل بأخلاق تبعثها من رقادها وترمي بها متيقظة متحدة في حلبة سباق الزمن الّذي لا يرحم فتستعيد مكانتها وتسترجع عزتها وتمسح كرامتها ممّا لوثته الأيام”.
ويكررالمؤلف أكثر من مرة ان أحد أم دوافعه لتأليف هذا الكتاب هو أمله في أن تكون التجربة الاسبانية مثالا للعرب أيّا كانوا وحيثما كانوا، مشيرا إلى ان الشعوب العربية قادرة هي الأخرى على النهوض والسير والرقي إذا ما تخلى كل فرد فيها عن غروره وإحترام رأي أخيه واتخذ الحوار سبيلا، عاملا بكلامه عزّ وجلّ: “وجادلهم بالتي هي أحسن”.
وذكر المؤلف انه وهو يحرر الجزء الاوّل من كتابه هذا، فكر في أوضاع البلدان العربية وفي مقدمتها وضع مسقط رأسه تونس الخضراء، التي كانت آنذاك على فوهة بركان، وكان وضعها شديد الشبه بالذي عرفته أسبانيا.
فزاد هذا ـ كما يقول ـ من حماسته في تسجيل التجربة الاسبانية بغية عرضها على كل تونسي وكل عربي، ليؤكد لهم انه بالإمكان أحسن وأكثر مما كان، وأشار المؤلف إلى انه كان سعيدا قبل إنهائه هذا المؤلف وقبل ان يخرج إلى النور ما احتواه وما دونه فيه، ان تم في تونس تحول شبيه بالذي أراد عرضه، وتخلصت تونس من كابوس مخيف لتدخل مرحلة الإبدال بالتي هي أحسن وإرجاع للشعب دوره وحقوقه، وعبر الكاتب عن أمله بأن تواصل تونس مسيرتها على هذا النسق..
الدستور الجديد
حلل المؤلف بنود الدستور الاسباني، وهو دستورساهم في إعداده وتحريره ممثلون عن كل فئات وميولات الشعب الأسباني، ووصفه بأنه دستور الوفاق والتعايش الذي وحد بين شقي أسبانيا بعد أحقاب من الشقاق والتناحر انتهت بحرب أهلية مدمرة.
واستشهد المؤلف للتدليل على صدقية الدستور الاسباني بحادثة بسيطة في مظهرها، عميقة في معناها، كفيلة بالدلالة على أن دستور أسبانيا الجديد سيعمر أكثر من كل الدساتير الأخرى.
إنها قصة معلمة بإحدى المدارس الابتدائية بإقليم كاتالونيا، مدرسة من تلك التي تديرها الراهبات. ذات يوم، تجرأت المدرسة وصرحت، في شكل لأحد معارفها، أنها ليست كاثوليكية. كان هذا كافيا بأن تستلم بعد يومين رسالة من المعهد تفيد بفصلها ولو أن الطرد علل بأسباب أخرى غير محددة. رفعت المدرسة شكوى ضدّ معهدها وحكمت لها المحكمة، لكن دون التعمق في الحيثيات، فرأت المدرّسة أن ذلك غير كاف وقررت الوصول إلى آخر ما يمكن الوصول إليه... لم تستسلم وقالت: “كل هذا كان موجودا في عهد فرانكو فأين التجديد؟”.
بحثا عن التجديد رفعت قضيتها إلى أعلى مؤسسة عدلية جعلت للسهر على الحقوق والحريات، وبذلك كانت تريد أن ترى إن كان الدستور صالحا حقا ويمكن لأي مواطن أن يستفيد منه.
رفعت قضيتها إلى المحكمة الدستورية فحكمت هذه بوجوب الاعتراف للمواطنة بحقها في حرية المعتقد وبعدم التعرض إلى أي تمييز لأسباب عقائدية، واعترافا بحقوقها تلك يجب اعادتها إلى وظيفتها.
هذه الحادثة البسيطة رأى المؤلف أنها دليل قاطع على عمق وأصالة ما وصلت إليه أسبانيا في ظرف قصير نسبيا. فلقد ركزت خلال هذه المدة نظامها الديمقراطي فكانت أطول مدة، في تاريخ أسبانيا المعاصر، يتعايش فيها الأسبان في أمن وسلام وحرية.
التاج الملكي
“كيف ما تكونوا يولى عليكم”.
إنّ هذا الحديث المأثور يستشهد به المؤلف ويرى ىانه أصدق ما ينطبق على أسبانيا التي أصبحت شاهدا أو مثالا يذكر كلما دار الحديث حول الديمقراطية وسبل الوصول إليها بلا عنف ولا تصادم ولا شقاق ولا ضحايا.
فاسبانيا دولة ذات متناقضات، متعددة الشعوب واللغات، ثقيلة الماضي البعيد والقريب بالانقلابات والثورات، ذات الجروح التي لا تزال دامية موجعة من جراء حرب أهلية أتت على كل المفاهيم والقيم ودمرت كل صالح ومفيد، وهي بلاد رزحت أربعين عاما تحت حكم وسلطة رجل واحد هو فرانكو.
ويؤكد الكاتب ان اسبانيا عرفت الجوع والحاجة والظلم، وعرف نصف أهلها التشريد والهجرة، وكانت في شبه عزلة عن العالم الذي ولى لها ظهره طيلة أربعين سنة فعاشت في انطواء على النفس، واستطاعت في وقت قصير جدّا أن تتحول من نظام السلطة الفردية إلى الديمقراطية التعددية حيث السيادة للشعب في ظل ملكية دستورية عصرية، وهي كما وصفها الملك نفسه في خطاب مبايعته مؤسسة متفتحة حيث يجد كل المواطنين مكانا فسيحا لمساهمتهم السياسية دون تمييز من أي نوع كان ودون ضغوط غير مستوجبة من طرف مجموعات متشيعة أو متطرفة.
إن التاج الملكي الاسباني ـ وفق تحليل المؤلف ـ يصون الشعب بأكمله وكل مواطن على حدة ضامنا عن طريق القانون وبواسطة ممارسة الحريات المدنية سلطان العدالة. والملكية تعمل وفق مبادئ الديمقراطية، على استتباب الأمن الجماعي والاستقرار السياسي في أسبانيا، وتضمن في نفس الوقت الوصول المنتظم إلى السلطة لكل الذين يتداولون على الحكم، حسب رغبات الشعب.
عهد فرانكو
ارتبط اسم فرانكو باسبانيا ارتباطا وثيقا، وهوالذي حكمها بيد من حديد على امتداد 40 عاما باكملها. ويقدم الكتاب نبذة عن شخصيته وتحليلا لمواقفه.
هو فرانثسكو فرانكو باهامونتي المولود بعد منتصف الليل بقليل من يوم 4 ديسمبر من سنة 1892 بمدينة الفرّول من منطقة جليقية بأقصى الشمال الغربي من شبه الجزيرة الإيبيرية.
كان أبوه نيكولاس محاسبا في إحدى البواخر وكانت أمه “بيلار” ابنة ضابط بقسم التموين بالبحرية الأسبانية.
وكانت عائلة فرانكو تتمتع بجانب من الاحترام وشيء من الرفاهية، ولو أن سيرة الأب الذي اشتهر بأنه زير نساء قد أخجلت باستمرار أفراد العائلة الذين وجدوا في الأم شديدة التدين والخيّرة تعويضا عن الأب وتصرفاته، فكان تأثيرها ولا شك قويا على ابنها.
هذا الرجل الطامح الطموح، الذي عاش يشكو مركب قصر قامته وتفوقه في الدراسة والتكوين هو الذي قال:
“من يوم أن رقيت إلى رتبة فريق وأنا في الثالثة والثلاثين من عمري، وضعت في دروب ذات مسؤوليات خطيرة بالنسبة للمستقبل...”.
وهو الذي ظن ثم اعتقد أن الأقدار قد بعثته لانقاذ بلاده، فتربع على كرسي القيادة فيها حاكما بأمره، يسيرها ومن فيها حسب ما عنّ له وارتأى، فجعل من أيام حكمه الطويل عهدا بارزا من عهود الحكم في أسبانيا ومرحلة تاريخية من أهم وأبرز مراحل التاريخ الأسباني.
الحرب الأهلية
وخصص المؤلف جزءا كبيرا من كتابه لتحليل الحرب الأهلية الاسبانية، وهي من أشرس الحروب الأهلية وأكثرها سفكا للدماء وتنكيلا وتعذيبا، كما تعرض بالتفصيل الى فترة حكم فرانكو مؤكدا ان السؤال الوحيد الذي كان يتردد على جميع الألسن هو: “وبعد فرنكو ماذا؟”.
كان الناس في الداخل وفي الخارج خاصة يتساءلون عما سيحدث بعد زوال فرنكو الذي جاء إلى السلطة عن طريق انتفاضة عسكرية تلتها حرب أهلية عديمة المثال في شراستها وشدتها وتعقيدها وتشابك المصالح الوطنية والعالمية فيها، وقليلة الشبه في تخريبها وتدميرها وحتى وحشيتها في بعض الأحيان علاوة على عدد ضحاياها من موتى وجرحى وسجناء ولاجئين.
كان الاستفهام عاما والرغبة ملحة لمعرفة ما سيقع ويحدث بعد موت هذا الرجل الذي قبع على كرسي السلطة قرابة الأربعين عاما من خلال نظام فريد من نوعه وشدته ومعالجته للأمور والمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية حتى أن بعضهم رأى في نظامه فلسفة سياسية جديدة هي “الفرانكية” أو “الفرانكيزمو” نسبة للفريق فرنكو نفسه، وظنوا أن هذا النظام سيبقى بعد صاحبه لكن كيف وبمن؟
فهل يمكن ان تستمر الفرانكية بدون فرنكو؟
وإن كان كذلك، هل كوّن هذا النظام رجالا يستطيعون المحافظة على استمراريته؟
هل النظام نفسه له وفيه المقومات ما يجعله يبقى ويستمر أم كان كله مقاما على شخصية رجل واحد فينهار بزوال ذاك الرجل؟
وأخيرا والأكثر أهمية واعتبارا هو هل أن الشعب الأسباني بجميع مكوّناته وفئاته كان قابلا لذلك النظام أم كان مفروضا عليه ومن ثمّة سيكون زوال صاحبه الفرصة الملائمة للتخلص منه؟
وإن كان كذلك، فكيف كان التخلص من هذا النظام؟
أليس في ذلك مغامرة قد تؤدي مرة أخرى إلى الشقاق والتصادم ومن ثمّ إلى حرب أهلية أخرى بين شقي أسبانيا أو “الأسبانيتين” كما شاعت تسميتها؟
كل هذه الأسئلة وكثيرة غيرها حاول المؤلف الاجابة عنها في هذا الكتاب، مؤكدا بأنه تحاشى التعليق والحكم مقتصرا على السرد في أغلب الأحيان لأن غايته، لم تكن سوى سرد ما وقع وطرحه أمام القارئ العربي، على علاته دون تحريف ولا تعليق أو تحسين أو تلميع.
لمحة تاريخية
إسبانيا كما يعرّفها الكتاب فسيفساء من الشعوب واللغات ومجموعة من الدول والدويلات كانت قديما متفرقة منفصلة فتوحدت حتى ضمتها رقعة جغرافية واحدة وظللها تاج واحد، فأصبحت دولة واحدة سرعان ما تحولت إلى إمبراطورية لا تغرب الشمس عنها
ويجزم المؤلف ان اسبانيا أصبحت بفضل موقعها الجغرافي ومناخها العذب وطقسها المعتدل وثرواتها المنجمية والزراعية مقصد النازحين وبغية الغازين، فتحولت بحكم الظروف والأحداث بمرور الأيام إلى ملتقى حضارات ومصهر أجناس وشعوب ولغات، ولقد أمّ شبه الجزيرة السلتيون والفينيقيون والأغريقيون والقرطاجنيون والرومان والغوطيون والعرب المسلمون فأقام فيها كل منهم حضارة وبثّ ثقافة وطريقة عيش أصبحت بمرور الزمن إحدى مكوّنات الذاتية والشخصيّة والأسبانية.
خليط لغوي
وعرج المؤلف إلى فترة أواخر العهد الإسلامي باسبانيا لنجدها مكوّنة عند وفاة سانشو الثالث، ملك نافارا (1035م) من ما يزيد عن عشر ممالك، هي ليون وقشتالة ونافارا وأراغون ومقاطعات كاتولونيا وكلها مسيحية، وإلى ممالك ساراقسطة وطليطلة وبلنسية ووادي الحص (باداخوث اليوم) ودانية وغرناطة وقرطبة واشبيليا، وهي تلك الممالك الإسلامية التي عرفت بملوك الطوائف.
وطبيعي أن ينشأ عن هذا الخلط والمزج تعدد في معظم الظواهر الحياتية والثقافية، إذ نجد في الوقت الحاضر لغات عدة وهي لغات مستعملة يوميا، وهي تختلف عن بعضها بكل وضوح.
فهناك الباسكية وتستعمل في بلاد الباسك ونافارا، والجليقية وهي أداة التعبير لدى سكان الشمال الغربي من شبه الجزيرة ويسمى جليقية (غاليثيا)، والقطالانية وهي لغة أهل المنطقة الشمالية الشرقية، وإمارة أندورا بشيء من الاختلاف والفروق البسيطة يتكلمها أهل بلنسية وجزر البلييار.
وأخيرا اللغة القشتالية، لغة بقية البلاد وهي أيضا اللغة الرسمية للدولة والتي تعرف عامة باسم “اللغة الأسبانية”.
واللغة القشتالية أو الأسبانية هي اليوم ثالثة لغات العالم من حيث عدد الناطقين بها ومساحة البلدان التي تتكلمها وهي اللغة الرّسمية في بلدان وسط وجنوب أمريكا.
عهد ثقافي ذهبي
خصص المؤلف فصلا من كتابه الضخم للحديث عن عهد ألفونصو الثالث عشر المليء بالأحداث والأزمات والصراعات بما في ذلك الحروب (الحرب العالمية الأولى وحرب الريف)، وهوعهد في تاريخ اسبانيا أشبه برواية فاجعة تتابعت فصولها لتؤدي إلى حل هو سقوط الملكية وقيام الجمهورية وتحقيق الفرحة للجميع أو هكذا ظن واضعو فصول تلك الرواية.
وما هو مؤكّد وحاصل على الإجماع أنّ عهد ألفونصو الثالث عشر كان عصرا فضيا بل ذهبيا، بالنسبة للفكر والأدب ومن نجومه اللماعة الشهيرة أونامونو والأخوان ماتشادو وأثورين وباروخا، وظهر جيل لمعت فيه نجوم أدبية كثيرة قد يكون أشهرها فيديريكو غارثيا لوركا وخوسيه أنطونيو بريم ودي ريفيرا..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق