الجمعة، 3 فبراير 2012

تجربة بنك جرامين في بنجلادش ودحض أخطرفرضيات الرأسمالية

فقط: دفاعا عن الفقراء


د. محمد آل عباس

من اللافت للانتباه أن من نظّر إلى الرأسمالية وكتب عنها ودافع بحرارة لم يكن فقيراً أبدا، بدءا من سميث، الذي أنهى حياته مفوضا للجمارك، مرورا بساى رجل الأعمال وركاردو، الذي كان يعمل سمسارا للأوراق المالية، وحتى كنز، الذي عمل في عدد من المناصب الرفيعة. 
كل أولئك لم يكونوا فقراء بأي حال، لذلك كانت الرأسمالية فضيلة عظيمة بالنسبة للمحظوظين أمثالهم، لكن علم الاقتصاد يشهد أن أخطر الفرضيات التي قامت عليها الرأسمالية قد أتت من ارستقراطي بريطاني هو مالتوس عندما أكد أن الفقراء هم سبب بؤسهم، وبما أن الموارد محدودة، فمهما حاولت الدولة أن تتدخل لتحسين الأحوال فإن الغريزة ستقود الفقراء مرة أخرى إلى حالتهم السابقة.

هذه الفرضية الخطيرة جددها بعد ذلك فيلسوف بريطاني أيضا هو هربرت سبنسر، الذي أطلق مصطلح "البقاء للأصلح"، وقال إنه لا مكان للضعيف في سباق الأقوياء، وقدم بذلك كفارة لضمير الرأسمالية، وأنها قانون الطبيعة الذي لا حياد عنه.
تلقى كبار الرأسماليين أفكاره ورحبوا بها، حتى أصبحت شعارا للرأسمالية ليصبح أصحاب الملايين نتاجا للانتخاب الطبيعي وأنهم يحصلون على الأجور العالية ويعيشون في ترف، لأن هذا الوضع جيد وصحي للمجتمع.
من هنا رأى الرأسماليون وآمنوا بعقيدة عدم تدخل الدولة.
لكن أخطر التغيرات التي واجهت الرأسمالية هي ظهور الشركات المساهمة عندما أصبحت سلطة إدارة رؤوس الأموال في يد بيروقراطيي الشركات لتظهر معهم مشكلة الوكالة.
فهل يعمل هؤلاء لصالح المالكين أم لتعظيم منافعهم من خلال زيادة حجم منشآتهم؟
هل من المعقول أن يعمل هؤلاء لتعظيم أرباح أسهم مجهولين لا يعرفونهم؟
كان النقاش حول هذه الأسئلة المهمة يتم في أحلك فترة اقتصادية ـ فترة الكساد.
في تلك الفترة بدأ الحديث بدقة عن الدورات الاقتصادية والانكماش الذي يمكن أن يحدث نتيجة تراكم أخطاء بيروقراطيي الشركات في المضاربة بأموال المساهمين، وكذلك التوسع في الإقراض. 
لقد كان واضحا جدا أن المشكلات الاقتصادية تحدث نتيجة أخطاء الرأسماليين وشركاتهم الرأسمالية وليس بسبب فقر الفقراء وعدم قدرتهم على الدفع، كما يدعي البعض اليوم.
ولحل المشكلات الناتجة عن الأخطاء المتراكمة للرأسمالية وإنقاذ الاقتصاد العالمي، يجب أن تتدخل الدولة وتضخ النقد وتقرض.
هكذا ببساطة يصبح التدخل لإنقاذ الأغنياء فضيلة رأسمالية.
عندما تقوم شركات عالمية ومتعددة الجنسيات بفصل تعسفي لمجموعة من الشباب السعوديين، فهذا له تبريره الاقتصادي ويجب على الدولة ألا تتدخل في ذلك، فهذا قانون الانتخاب الطبيعي.
عندما تنهار سوق الأسهم على الضعفاء، فهذا أيضا بسبب عدم رشدهم الاقتصادي، ويجب على الدولة ألا تتدخل، فالسوق تختار من يجب عليه البقاء، فهذا قانون الانتخاب الطبيعي.
لكن عندما تنهار البورصات العالمية ـ بورصة الهوامير وعندما تتجه الأسعار إلى الهبوط وتواجه الشركات متعددة الجنسيات أزمات مالية، فإنه يجب أن تتدخل الدولة وتقرض المضاربين حتى لا ينهار الاقتصاد.
هكذا يتضح أن الهجوم على الفقراء ليس من باب الصدفة، بل هو شريعة غابة الرأسمالية، ولكن هناك وفي دولة تعج بالفقراء قدم صاحب جائزة نوبل دليلا يصعب دحضه حول كذب هذه الفرضية، فالفقراء أصدق الناس وقدرتهم على السداد ترتفع كلما رفع عنهم جشع الرأسماليين وفوائدهم التي لا يمكن التنبؤ بها.
إنها تجربة بنك جرامين في بنجلادش تلك التجربة التي استحقت جائزة نوبل لصاحب التجربة الفريدة محمد يونس.
ولعلي أستعير كلمات لجنة الجائزة "فلا سلام دائم من دون أن يجد الناس سبيلا لكسر طوق الفقر .. كما أن التنمية من أسفل تخدم التقدم على طريق الديمقراطية وحقوق الإنسان".
إن بنك جرامين بنك يملكه الفقراء ويعمل من أجل إقراض الفقراء فقط.
درس محمد يونس أحوال الفقراء في عدد من قرى بنجلادش، واكتشف هناك أن كسر طوق الفقر لن يتم دون إقراضهم رأسمال يتيح لهم الاستفادة من عوائده.
حاول عبثا أن يقنع البنوك لإقراضهم لكنهم ـ كعادة الرأسماليين ـ يرون عدم أهلية الفقراء للحصول على القرض، وأنهم لا يستحقونه.
لم يكن أمام صاحب جائزة نوبل للسلام سوى أن يقوم بإنشاء بنك الفقراء بعد أن أقنع البنك المركزي بفكرته وتحمل مسؤوليتها كاملة.
لقد تحرر محمد يونس من عقل الرأسمالية، رغم كونه أحد تلاميذها، لكنه بنى رؤيته على أساس إسلامي وأن الائتمان حق أساسي من حقوق الإنسان وأن الفقير إنسان كامل الأهلية وليس ناقصا لها كما تدعي ـ زورا ـ الرأسمالية الغربية. 
إذا كانت النظرية الرأسمالية صحيحة فإن بنك جرامين كان يجب أن ينهار منذ زمن بعيد، لكن الذي حصل هو أنه أصبح للبنك أكثر من ألفي فرع وأقرض أكثر من ستة ملايين مقترض ـ كلهم فقراء ـ بقيمة تتجاوز خمسة مليارات دولار، وأن نسبة السداد بلغت 98 في المائة.
واليوم وفي الوقت الذي يعمل فيه بنك جرامين بكل هدوء في بنجلادش الفقيرة ويقرض الفقراء كانت كبريات البنوك العالمية في أغنى دول العالم تنهار.
http://www.aleqt.com/2008/11/14/article_163632.html 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق