الجمعة، 10 فبراير 2012

في نظرية المعرفة: خلاصة ونتائج




















من المعرفة إلى التأويل 
النظرة التقليدية لنظرية المعرفة كانت ترى أن حل كل مشكلات المعرفة رهين بحل مشكلة إمكانية المعرفة، ولذلك كان هناك جوابان:
الجواب الأول: مثله الشكاك، الذين شكّوا في إمكانية المعرفة اليقينية، وكان جوابهم: لا، ليس في إمكان الإنسان التوصل إلى معرفة يقينية. وبالتالي هدموا باقي مشكلات المعرفة المتوقفة على حل مشكلة المعرفة. 
الجواب الثاني: مثله أنصار ما يمكن أن نسميه(اليقين القطعي)، وهم الذين تبنوا وجهة النظر، أو إن شئت قلت، المسلمة القائلة: نعم، بالإمكان توصل الذات الإنسانية العارفة إلى المعرفة اليقينية.

 وإن اتفقوا هنا إلا أنهم سرعان ما اختلفوا فيما يخص وسيلة المعرفة الكفيلة بإيصالنا إلى اليقين.
 واختلفوا كذلك في حدود هذه المعرفة اليقينية:
 بمعنى هل بوسع الذات معرفة أي شيء معرفة يقينية أم أن هناك ثمة حدود لليقين مثلما رأينا مع "كانط" مثلا.

 واختلفوا أيضا في الضمانات: فما هو الضامن على أن ما توصلنا إليه يمثل الحقيقة اليقينية؟ وبالتالي في معايير الصدق ...الخ. 
ما نود قوله ولفت الانتباه إليه هو أن أصحاب (اليقين القطعي) لم يتفقوا بل تباينت وتعددت وجهات نظرهم حول (إشكالية المعرفة). وطالما الأمر كذلك فعن أية معرفة يقينية يتحدثون؟! أو بشكل أقل حدة: أين يكمن اليقين في وسط هذه التباينات والاختلافات في الرؤى والطروحات المصطرعة بين أنصار (اليقين القطعي) أنفسهم؟!
 وبناءا على ذلك بإمكاننا القول أن تاريخ نظرية المعرفة وتاريخ مشكلة المعرفة يثبت لنا بما لا يدع مجالا للشك الحقيقة المتمثلة في: أنه لا وجود لنظرية معرفية واحدة، بل مجموعة من نظريات المعرفة المتعددة والمختلفة مع بعضها البعض. وفي رأينا فإن ما قدمه الفلاسفة في هذا الصدد هو محض تأويلات ورؤى كثيرا ما تتضارب وتتناقض وتتصارع مع بعضها البعض. 
من جهة أخرى، لا نرى في راهننا المعاصر من يتطرق لمثل هذه القضايا التقليدية: فأية شرعية اليوم لمناقشة قضية كقضية إمكان المعرفة؟!
 طالما أن المعرفة الإنسانية قائمة وآثارها تشهد بذلك.

 أما بخصوص الحديث عن وسائل المعرفة أو مصادرها فنرى أنها قضية قد عفى عليها الزمن، فكل الوسائل التي تباينت حولها آراء التجريبيون والعقلانيون والتوفيقيون والحدسيون ..الخ، لم يعد لها نفس دورها القديم، " بل يؤدي كل منهم دورا جديدا أكثر تواضعا ولم نعد نتحدث عن أي منهم كمصدر للمعرفة" وحيد في انعزال عن بقية المصادر.
 وبالتالي فإننا نقول بتكاملية كل مصادر المعرفة الإنسانية. 
وفي ظل هذا السياق نلاحظ التغيير الجذري- مع الفيزياء الذرية- الذي حدث مع " مفاهيم العقل ومبادئه، تلك المفاهيم والمبادئ التي كان ينظم بها التجربة (مثل مفهوم الحتمية ومفهوم الزمان والمكان) فصار لزاماً على العقل أن يغير فهمه لنفسه، وهل العقل شيء آخر غير مفاهيمه وأدوات عمله؟
إن الثورة الأبستمولوجية (الثورة في نظرية المعرفة وبالتالي في نظرية العقل) انطلقت مع نظرية النسبية ونظرية الكم.
 فلقد كانت ولازالت ثورة استهدفت مراجعة كل شيء في مجال المعرفة مراجعة شاملة.
 لعل أولى نتائجها هي ضرورة النظر في مفهوم العقل ذاته.
 لقد كان الفلاسفة من قبل ينظرون إلى العقل كمحتوى ( قوانين العقل عند "أرسطو"، الأفكار الفطرية عند ديكارت، صورتا الزمان والمكان عند كانط)
 أما الآن فلقد أدى تطور العلم وتقدمه إلى قيام نظرية جديدة في العقل قوامها النظر إليه بوصفه أداة أو فعالية ليس غير.
لم يعد العقل في التصور العلمي المعاصر مجموعة من المبادئ، بل إنه القدرة على القيام بإجراءات حسب مبادئ، إنه أساساً نشاط منظم، ولنقل إنه لعب حسب قواعد. أصبح العقل جملة قواعد مستخلصة من موضوع ما، أي من الموضوع الذي يتعامل معه الإنسان 
إن ما تود الهرمنيوطيقا (نظرية التأويل) لفت الانتباه إليه هنا إنما يتمثل في تجاوز المعرفة كإشكالية إبستمولوجية لا هم لها إلا محاولة إيجاد الطريقة المثلى التي يمكن بواسطتها الحديث وبكل ثقة عن تطابق بين الذات وموضوع معرفتها وهو الأمر الذي جعل نظرية المعرفة ـ بشقيها العريضين المثالي والتجريبي ـ " تقع في فخ التلفيق ووهم الموضوعية العلمية".
 وبالتالي يمكننا القول أنه مع ظهور الهرمنيوطيقا بدأ في أوساط العلوم الاجتماعية والدراسات الإنسانية ـ وعلى رأسها الفلسفة ـ الارتياب في شرعية سيادة نظرية المعرفة التي استمرت فترة طويلة، وأصبحت " مهمة العقل التأويلي تكمن في تقديم البديل ... خلفا للمنهج العلمي الذي أثبت عجزه في اكتشاف مضمرات خطاب الحقيقة والتأكيد على تفلّت الحقيقة ولانهائية دلالاتها، وكذا تمكين الذات العارفة من نقد نفسها بتحويلها إلى موضوع معرفة" فالواقع الإنساني لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يُرد إلى مجموعة من الأفكار القابلة للمعالجة العقلية، والوجود الإنساني الأصيل يرفض أن يتطابق مع نموذج أو قالب وضعه الفكر العقلي مسبقا. 
كان التساؤل عن إمكانية الذات العارفة في بلوغ المعرفة اليقينية واحدة من أهم قضايا نظرية المعرفة، فمنها تنبثق بقية قضايا ومشكلات نظرية المعرفة.
 مع الهرمنيوطيقا، فقدَ هذا التساؤل شرعيته
إذ لم تعد الهرمنيوطيقا تطرحه، إذ أن واحدة من أهم المسلمات الرئيسية التي قامت عليها معظم تياراتها، إن لم نقل كلها، تتمثل في أنه من العبث بمكان الحديث عن يقينية المعرفة التأويلية،
 فهنا " لا وجود لتقنية للفهم نستطيع من خلالها القبض على المعنى أو استعادة المعنى الأول، إن وجد، كما تزعم نظرية المعرفة أو العلوم الصحيحة برؤيتها الدوغمائية الإمبريقية"
فالتأويل دوما منفتح على الاختلاف والضدية والتعددية على مستوى المعنى والدلالة والفهم والحقيقة. 
من جهة أخرى فإن نموذج المعرفة (اليقينية) أي تلك المعرفة التي لا سبيل للشك فيها، هو نموذج كانت له سيادة مطلقة في مرحلة مضت من مراحل تطور العلوم الطبيعية،
 وما يترتب على هذا القول أن العلم الطبيعي قد أصبح بعد نظرية الكوانتم لماكس بلانك وبعد نظرية النسبية لأينشتاين أصبح مؤسسا على احتمالية المعرفة وعلى نسبيتها، فما بالك بالعلوم الاجتماعية والدراسات الإنسانية؟!
 حيث كانت نظرية المعرفة وخاصة عند الفلاسفة المحدثين مسكونة بوهم اليقين، وهم البحث عن الحقيقة اليقينية، ف"العلاقة بين الذات وموضوعها في التقليد الفلسفي، في نسخته العلمية، أي مع نظرية المعرفة(الابستمولوجيا)، تقوم على مبدأ بنية ثبات الذات ومن ثم المعرفة والحقيقة من حولها، وكأن وجود هذه الذات محدد ومُعطى سلفاً وكذلك الأشياء/الحقائق، الأمر الذي يحول دون تحقيق الفلسفة لمقاصدها، ممثلة في التفكير وصناعة المفاهيم وإبداعها على الدوام"

 وهو ما نجده واضحا في نظرية المعرفة الديكارتية ـ وديكارت هو أبو الفلسفة الحديثة بامتيازـ والتي كان هدفها الوصول إلى (اليقين)، ولذلك بحث ديكارت، فوجد أن الرياضيات أو بالأحرى المعرفة الرياضية هي المعرفة الوحيدة التي يمكن الوثوق بها والركون إليها لأنها تمتاز بصفتي البساطة والوضوح، ولذلك كان الحلم الديكارتي الذي حاول صاحبه أن يحققه من خلال منهجه ومن خلال اصطناع الشك المنهجي طريقا لبلوغ المعرفة اليقينية الحقة، كان هذا الحلم متمثلا في محاولة تأسيس يقينية كل قضايا المعرفة الإنسانية، على غرار النموذج المعرفي الرياضي، على قاعدة الوضوح والبداهة. 

من جهة أخرى كان الشاغل الأساسي خلف فلسفة "كانط" كلها يتمثل في السؤال: إلى أي حد يمكن أن نثق في العقل ونطمئن إلى قدرته في الوصول إلى يقين يشبه اليقين العلمي في المعارف الرياضية والفيزيائية؟
 والتساؤل الكانطي هنا عن إمكانية تأسيس الميتافيزيقا ـ أو بعبارة أخرى كل ما يقع خارج نطاق دائرتي العلم الطبيعي والعلم الرياضي ـ على أساس له من اليقين والرسوخ ما للعلم الرياضي والفيزيائي.
" وبالطبع فإن كانط لم يسأل هذا السؤال إلا بعد أن لاحظ أن هذه العلوم قد تقدمت ووصلت إلى حد كبير من اليقين المصحوب بالأدلة العقلية والتجريبية، بينما وجد أن الفلسفة لا تزال في مكانها لم تتقدم خطوة إلى الأمام وخاصة في مجال بحث القضايا الميتافيزيقية من أمثال قضية وجود الله، ومعنى النفس ومصيرها ... الخ" 
نحن هنا نستطيع تأول "كانط" بالقول:
استنادا على التمييز الكانطي بين (ظاهر الشيء) وبين (الشيء في ذاته)، فقد توصل "كانط" إلى أن الذات العارفة بوسعها أن تعرف عالم (ظاهر الشيء)، وهو العالم الطبيعي أو العالم المحسوس، وأن معرفتها في هذا الميدان يمكن أن تكون معرفة يقينية كما هو واضح في نموذج المعرفة الرياضية والفيزيائية آنذاك، أما بخصوص عالم (الشيء في ذاته) أو عالم ما وراء عالم ظاهر الشيء، عالم ما وراء العالم الطبيعي المحسوس والذي يتضمن كل موضوعات الميتافيزيقا التقليدية ـ التي كانت مثار للجدال الذي كان دائراً بين الفلاسفة آنذاك ـ مثل وجود الله، ووجود النفس، ومصير العالم...الخ.
 " هذه هي موضوعات الفلسفة الميتافيزيقية التقليدية التي رأى كانط استحالة أن يصل الفلاسفة إلى يقين بصددها لأنهم وببساطة لا يستطيعون أن يلتقوا بالله في حياتهم وفي تجربتهم الحسية على نحو ما يلتقون بأي ظاهرة من الظواهر في هذا العالم. كما أن أحدهم لن يستطيع مطلقا أن يجزم بأنه عرف بصورة مباشرة ما يسمى بالنفس، كما لا يستطيع أن يجزم بشيء قاطع حول مصيرها أو حول خلودها.. الخ"
 بخصوص هذه الموضوعات، فلا يمكن للذات العارفة أن تدعي امتلاكها للمعرفة اليقينية التي لا ترقى للشك.
 ويمكننا تأسيسا على هذا القول الكانطي، أن نشير إلى نتيجة هامة تتمثل في التمييز من جهة أولى:
بين العلم والميدان الذي يشتغل فيه وبه تتحدد وظيفته، على تفسير كل ما هو قابل للملاحظة والتجريب والقابلية للتحقق.
 وبين الهرمنيوطيقا والميدان الذي تشتغل فيه وعليه، والذي يقع خارج دائرة العلم، وغير قابل للخضوع لمعاييره في التحقق والصحة.
 ف " قصارى ما يملك العلم فعله، والأمر كذلك، هو البرهنة على ما هو ظاهر وقابل للملاحظة، دون أن تكون له القدرة على التمثل أو التأويل كما هو الحال في مشروع تجديد الفلسفة مع هايدغر ودعوته إلى التفكير فيما لا يقبل البرهنة أو القياس" 
وهو الأمر الذي يفتح الباب على مصارعيه للاحتمالية ومن ثم للتأويل.
 وهو الأمر عينه الذي يقودنا من النموذج المعرفي اليقيني الذي روجت له نظرية المعرفة إلى النموذج الهرمنيوطيقي القائم على الاحتمالية والاختلاف والانفتاح. وبالتالي فإن فلسفة كانط وهي تضع حدودا ينبغي على العقل الإنساني أن لا يتجاوزها ولا يتعداها، فإنها بذلك تحصر حدود العقل الإنساني في دائرة عالم (الظواهر) عالم ما يبدو لنا، أما عالم (الأشياء في ذاتها) فهي تتعدى حدود العقل الإنساني ولذلك " طالب كانط الفلاسفة بأن يكفوا عن البحث النظري في هذه الموضوعات وأن لا يتجرؤوا على الخوض في عالم الأشياء في ذاتها" لماذا؟ لأنهم لا يستطيعون الوصول إلى الحقيقة اليقينية بشأن موضوعات المعرفة من هذا القبيل. 
من منظور هرمنيوطيقي نتفق مع "كانط" في أن الذات العارفة ليس بوسعها الوصول إلى اليقين بخصوص موضوعات عالم (الشيء في ذاته)،
ولكن ذلك لا يعني أن نكف عن البحث النظري في هذه الموضوعات أو نلتزم الصمت بإزائها كما دعا إلى ذلك "فتجنشتين" حينما قال: أن ما لا نستطيع معرفته بيقين فينبغي الصمت إزاءه.
 لأننا ببساطة يمكن لنا أن نتأولها منفتحين على حقيقتها وعلى معناها وواضعين في اعتبارنا احتمالية وعدم يقينية ما نتوصل إليه من رؤى وتأويلات، ومن هنا أيضا تحدث النقلة من نظرية المعرفة إلى الهرمنيوطيقا. 

إذن، خارج دائرة العلوم الطبيعية فإن مخطط الذات والموضوع لا يصلح لتفسير ظاهرة المعرفة.
 فالعلاقة المعرفية بين الذات بوصفها عارفة وموضوع معرفتها في نظرية المعرفة الحديثة تقوم على نموذج " فلسفة الذاتية التي افتتحها الفيلسوف الفرنسي ديكارت. وبموجب هذه الفلسفة يعتقد الإنسان بأنه يقبض على العالم من خلال التمثل، تمثله لذاته أولا وتمثله للأشياء ثانيا، والأمران مرتبطان إذ الثاني يُبنى على الأول.
غير أن النقد الحديث بل المعاصر، متمثلا بالمنحى الأثري أو الجيولوجي أو التفكيكي في قراءة النصوص، يبين لنا أولا أن فلسفة الذات والوعي والحضور هي اختزال الكائن إلى مجرد صورة، أي مسخ له بتحويله إلى كليات مجردة.
 والأهم من ذلك أن النقد يبين لنا أن الذات العارفة القابضة على الأمر أو على الشيء أو على الآخر تحجب الإكراهات التي تشرط عملها. إذ الذات ليست مطلقة السيادة حرة التصرف، بل هي مشروطة ومفعول بها.
 وبعبارة أصرح، لا وجود لذات مستقلة منعزلة سابقة في تكوينها على الموضوع، وإنما الذات هي جملة شروطها، أي مجموعة العلاقات والنسب والإضافات التي تقوم بينها وبين الموضوعات" 
ويزداد الأمر تعقيدا خاصة فيما يتصل بالعلوم الاجتماعية والدراسات الإنسانية، فموضوع المعرفة بالنسبة لهذه الدراسات إنما يتمثل في الذات الإنسانية نفسها! لماذا؟
 لأن الذات داخل هذه العلاقة المعرفية تمثل طرفاها، بمعنى أنها من جهة الطرف الأول تمثل الذات العارفة وفي نفس الوقت هي موضوع المعرفة من جهة الطرف الثاني!
 حتى الآن ليس من شيء يدعو إلى العجب!،
 ولكن المفارقة تكمن في أن هذا المخطط المعرفي( الذات والموضوع) يطالب بأن تكون النتائج التي يجب أن تتوصل إليها الذات بوصفها عارفة عن موضوع معرفتها الذي هو (هي ذاتها)! يطالب أن تكون هذه النتائج يقينية! وقاطعة! وموضوعية! 
لا يمكننا بأية حال من الأحوال، أن نتحدث هنا عن اليقينية والقطعية والموضوعية، لماذا؟
 لأن كل ما لدينا هنا هو محض تأملات أو رؤى أو أن شئنا الدقة قلنا تأويلات.
 وواحدة من أهم الخصائص التي تتحدد بها ماهية وهوية التأويل كتأويل تتمثل في أنه يقوم على أدلة أو حجج عقلية غير كاملة وغير قاطعة، والأهم من ذلك حجج غير موضوعية.
 بالتالي فلا يمكن بناءاً على هذا أن نتحدث عن تأويل يقيني أو عن يقينية المعرفة المكتسبة بواسطة التأويل.
 وعلى الرغم من أن هذه التأويلات غير موضوعية وغير يقينية فيما تدعيه، فإن هذا لا يعني أنها مجرد أوهام أو نزوات أو أهواء، لأن كل تأويل بغض النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا معه، يستند في نهاية الأمر على مجموعة من الاعتبارات العقلية. وهذا يعني أن أي تأويل لا يمكن أن يكون منبثق من فراغ، ولا يمكن أن يكون بلا حجج عقلية تسنده وتقويه في مواجهة غيره من التأويلات المتنافسة.
 ويبقى أن نقول أن ما يميز بين التأويلات هو مدى قوة أو تماسك حججها العقلية. 
" إن ما أحدثته الهرمنيوطيقا، بإبقائها للجدل بين الذات والموضوع من خلال صيغة المساءلة/ المحاورة يكون قد فتح الباب على مصراعيه أمام مرحلة جديدة في تاريخ الفلسفة والعلم معا، هي مرحلة الفهم وإشكالية الحقيقة في العلوم الإنسانية، إذ بدأ تراجع نظرية المعرفة أو فلسفة العلم جليا بظهور هذا الفتح الفلسفي على يد العقل التأويلي، وقد تبلور ذلك حقيقة في قول هايدغر، بأن العلم لا يفكر"

 " أعطت الحداثة الأولوية للذات الإنسانية، ومكنتها من قدرة عجيبة على التمثل، وامتلاك موضوعاتها، وهو ما أجاز انبثاق عصر التصورات الكبرى للعالم
"
حيث رسخت نظرية المعرفة للتقليد العلمي، من خلال إعلائها من شأن المعرفة العلمية، وضرورة تطهير الذات من جميع أحكامها المسبقة حتى تستطيع التوصل إلى حقيقة موضوع معرفتها بشكل موضوعي.

 وبذلك تكون نظرية المعرفة قد رفعت سلطة الذات إلى مرتبة امتلاك الحقيقة اليقينية عن طريق تمثل الذات لموضوع معرفتها، وبالتالي تحويل الموضوع الواقعي إلى مجرد تصور عقلي. 

على ذلك يمكننا القول
بأن الفلسفة الحديثة انحصرت مهمتها الأساسية في محاولة تأسيس نظرية المعرفة على أساس علمي يقيني، وفي ذلك فقد تأثرت الأثر الكبير بوضعية النموذج المعرفي على مستوى العلوم الطبيعية، " وتطبيق مناهجها في شتى المجالات، بحيث أصبح هناك "اتجاه" كامل نحو اتخاذ العلم الطبيعي أنموذجا لكل من المعرفة، حتى في مجال معرفة الإنسان" حيث امتاز النموذج المعرفي الفيزيائي والرياضي بالدقة واليقين، ولذلك كله حاول فلاسفة المعرفة عبر محاولة التأسيس العلمي للنظرية المعرفية تحقيق حلمهم المتمثل في إقامة المعرفة الإنسانية على أساس يقيني راسخ.
 بذلك " تميزت الفلسفة الحديثة، انطلاقا من ديكارت، بالعزم على تأسيس العلم، بل باعتبار هذا التأسيس مهمتها الرئيسة. (...).بذلك تحولت الفلسفة، في شوط كبير منها، إلى نظرية في المعرفة تضع نصب عينيها العلاقة بين الذات المدركة والموضوع المدرك"
 إن الانطلاق من الذات العارفة في عملية المعرفة صوب موضوع معرفتها أفضى بنظرية المعرفة إلى المثالية، في حين أن الانطلاق من الموضوع المفارق وتعيين شروط ومعطيات معرفته وتحديداته للذات أفضى بها إلى الواقعية.
 وما بين التوتر بين هذين المنطلقين المثالي والواقعي اندرجت كل مسائل وقضايا نظرية المعرفة.
 وفي مقابل حلم اليقين المشروع للنظرية المعرفية الحديثة، فقد كانت نتائج وحصيلة ما توصل إليه فلاسفة المعرفة في هذا المضمار مخيبة للآمال والتوقعات، إذ وصلوا إلى قناعة أن " مشكلة المعرفة مشكلة صعبة وعسيرة، بل حتى غير قابلة للحل في ظاهرها"،
ويتساءل جون ماكوري عن أسباب فشل نظرية المعرفة الحديثة في تحقيق مراميها وأهدافها المتمثلة في التوصل إلى الحقيقة اليقينية، بقوله: " أفلا يمكن أن يعود ذلك إلى أنها قد صيغت بطريقة خاطئة؟
 ذلك لأن المرء إذا ما بدأ بالشخص العارف والشيء المعروف بوصفهما كائنين منفصلين فربما كان من المستحيل عليه بعد ذلك أن يجمعهما معا، أو أن يخرج بطريقة مقنعة من شرك مذهب الذات الوحيدة " 
وإذا جاز لنا القول بأن الفلسفة الحديثة " تحولت في شوط كبير منها، إلى نظرية في المعرفة" فإن الفلسفة المعاصرة يمكننا أن نصفها بأنها قد أحلت التأويل وقضاياه محل نظرية المعرفة، وهي تكون بذلك قد أقامت العلوم الاجتماعية والدراسات الإنسانية على أساس هرمنيوطيقي قائم على الغامض والمعقد والمختلف والمتعدد والاحتمالي والمنفتح على الآخر، بديلا للنموذج المعرفي للفلسفة الحديثة القائم على الوضوح والبساطة والتشابه والأحادية واليقينية والنسق المنغلق على ذاته المكتفي بها. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق