الكاتب: م.م.احمد جمعة
22/6/2011 8:26 مساءَ
نقاط الافتراق الفلسفية بين(المثالية) و(المادية) والمعطيات الفكرية لكليهما.
ارتبط الفكر المثالي منذ مرحلة التأسيس بمفهوم (المثال)، حتى أصبح هذا المفهوم هو الصورة التي تميز بها هذا الفكر
ولذا عد "الغرض الجوهري من الفلسفة هو تبيين أن الواقعي متحد مع المثالي" ،
وليس الاتحاد هنا بمعنى (الواحدية)، في ما بين ما هو ( جزئي أو مادي ) و ما بين ما هو (مجرد أو مثالي)،
وإنما هي مطابقة الشيء في الواقع لصورته في عالم المثل،
حتى أكد الفكر المثالي على أسبقية الماهية على الوجود بما (هو هو) ، عند العقل الأول أو العقل الفعال ،
ولكن ما المقصود من (الماهية) وما المقصود من (الوجود)، "
هذا السؤال رغم صغره إلا انه يبحث عن الحقائق الخفية وراء الظواهر، أو وراء ما يمكن أن تقدمه الأشياء مما يحقق الوعي لها،
رغم ما في هذا الوعي من درجات أو مستويات إلى تحقيق وعي الجوهر حسب التصور المثالي
وهذا يعني البحث بالوجود" وعلى هذا فإن التفريق بين كلا المفهومين (الماهية والوجود) نزعة أولية، أو أولى في التأريخ الفكري الفلسفي.
أ)معنى الماهية والوجود:-
إن المراد من الماهية
أولا: هو ذلك اللفظ الذي يكون جواباً عن (ما هو)، واستعمالها هنا (بالمعنى الأخص)، أي إدراك العقل للموجودات الممكنة عند تصورها تصوراً تاماً، بمعنى أن الماهية هنا تستعمل للموجودات التي لها حدود وجودية في الذهن، وبهذا يكون الخالق أو المطلق خارج هذا الاستعمال لعدم وجود ماهية له (بالمعنى الأخص).
وثانياً: يراد منها (المعنى الأعم) فتعرف بأنها: ما به الشيء هوهو، أو ما به يتحقق الشيء، وهنا يكون لفظ الماهية شاملاً لكل الموجودات التي في المعنى الأخص وغيره كالخالق أو المطلق في الفكر المثالي .
"ويمكننا أن نعد ( أرسطو ) أول من ميز بين الماهية والوجود" ، غير انه لم يكن يؤمن بأن الماهية هي التي تقع في الجواب عن (ما هو)، أو هي لا تستطيع الإجابة عليه في أحيان كثيرة، ويذكر مثلاً عن ذلك (الشيطان) الذي لا ندرك وجوده (بالفعل) .
وبهذا يرى الباحث أن المباحث الفلسفية عند فلاسفة الإسلام المثاليين، قد تطورت كثيراً عن سابقتها، الفلسفة اليونانية، وهذه مسألة طبيعية، فالأشياء والمفاهيم سواء أكانت (بالمعنى الأخص أو بالمعنى الأعم) قد نظر فيها ابن سينا كثيراً ، فموجودات كالشيطان والجان وحتى (العدم)، يكون استعمال (الماهية) فيها بالحمل الذاتي، أو بالمعنى الأعم كما تقدم،
ويشير الدكتور إمام عبد الفتاح إمام إلى أن البحث في الماهية قديم جداً حتى انه يسميه بقانون الهوية، وهو الذي كان يسميه العرب بقانون (الهو هو) ،
غير أن ( هيكل ) رفض هذا الاستعمال أو الاشتغال الفكري للماهية، فقد عد ( هيكل ) هذا الاستعمال "عقيماً لا يؤدي إلى جديد ولا يخبرنا بشيء قط: فأول ما يغلب على هذا القانون انه مجرد تحصيل حاصل ولا شيء أكثر من ذلك" ، مشيراً إلى أن صيغته هي: ( آ هو آ )، فأي قيمة ترى يمكن أن تنسبها إلى الإجابة عن السؤال (ما الإنسان بهو الإنسان) وما قيمة تكرار اللفظ نفسه.
ويرى هيكل أن القانون المثمر هو قانون التناقض، وهو بذلك يعاكس قوانين المنطق التي تشير بقانون عدم التناقض.
ويرى الباحث انه من اللازم توضيح مسألة أخرى وهي أن:
الماهية أساس اصطلاحي ميتافيزيقي وضعه (ابن سينا) كحقيقة توضح السير نحو الحق الذي بدأه (أرسطو) بالصور، وقد ترجمها الغرب اللاتيني في القرن الثالث عشر بعبارة (Quiddity ) ثم تم الخلط بينها وبين الجوهر (Essence ) ،وليس الجوهر بما هو ( موجود لا في موضوع ) هو الماهية، وإنما هما مفهومان متباينان تماماً ، لان ما يقابل الجوهر في الفلسفة هو (العرض) أو الموجود في موضوع، وما يقابل الماهية هو الوجود بما هو وجود مجرد.
والان لنعد إلى ما طرح في بداية الأمر من أن الفكر المثالي آمن بأسبقية الماهية على الوجود، لكن هذا الإيمان سرعان ما تبدل على يد فلاسفة الإسلام وخاصة عند الشيخ الرئيس (ابن سينا) ومن ثم تبعه جملة من الفلاسفة أمثال( الرازي وابن رشد وابن سبعين و صدر الدين الشيرازي) الذين عدوا الأسبقية ما بين الوجود والماهية متساوية النسبة في ما بينهما، وان الخلاف واقع حول (أصالة الوجود واعتبارية الماهية)، وقد اثبت أن الأصالة للوجود في محله ، وهذا التطور في الفكر الفلسفي المثالي ليس بجديد، غير أن هذا الطرح المعرفي في بنية الفكر الفلسفي قد أثر كثيراً على المباني الفلسفية فيما بعد.
ومن جهة أخرى نرى أن المثالية قد أمنت أو أذعنت للتفكير بالمفاهيم أو بالكليات أو (الثوابت)، وعلى أساس ذلك بينت معطياتهم الفكرية أو المعرفية لديهم، ومن ثم بينت قواعدهم المنطقية، وفقاً لهذه (الثوابت) أو القوانين العامة،
بينما نجد أن (المادية) قد انشغلت بما هو (متغير) أو بالجزئي، وجعلت الحركة أساساً للتغير في الماهيات (بالمعنى الأخص)، على الرغم من تعددها،
ومن خلال النظر الى مباني الفكر الفلسفي سيتضح لنا من أن المادية تؤمن بأصالة الماهية، والمثالية تؤمن بأصالة الوجود بما هو هو، مجرد عن النسبة إلى أي شيء آخر.
وعلى ذلك فإن تعدد الماهيات وتغيرها هو ركيزة الفكر (المادي)، فقد بحث الفلاسفة الماديون على هذا النحو من المعطيات التي دارت منذ البداية على الواقع (الفيزيقي)، وان (المثالية) معطياتها دارت منذ البداية على تحديد الأشياء، من خلال وضع القوانين الفكرية (للحدود) او المفاهيم، وعدها قوانيناً للفكر.
وفي تقديري أن منشأ الخلاف الفكري بين المثالية والمادية متمثلاً بما تقدم، على أن هذا هو بداية الاشتغال الفلسفي الحقيقي، لنرى من خلاله بوضوح ما هي الشمولية أو المفهومية الكلية، وما أهمية الاشتغال بالمادة أو بالجزئيات، بالحمل الشائع، التي تملئ الواقع، على ان ارفع تحقيقات الحضارة الإنسانية من ثقافة ودين وعلم وباقي مستويات المعرفة الإنسانية ليست نتيجة حتمية (مادية- عقلية) بل هي نتيجة أفكار متحررة بفاعلية جدلية .
ولهذا نجد أن " المثالية تحقق صدق الفكرة بردها الى مثال سابق على وجودها لقبولها أو رفضها، لإيمانها بوجود قوة عليا عاقلة فوق هذا الكون الذي نحيا فيه هي- عالم الفكر أو عالم الروح أو عالم المثل الأزلية- ولا يستطيع إدراكها إلا عدد ضئيل من الناس عن طريق التفكير المجرد" .
ونجد أن (المادية) كمنهج فلسفي قد جعلت من (المادة) الفيزيقية الخارجية أو الواقعية، مقولة لها تستخدم للدلالة على الواقع الموضوعي، الذي تعرفنا عليه حواسنا وهي بهذا ترى أن المادة أساس المعرفة وان هذا المظهر الوجودي ما هو إلا نتيجة لتطور المادة .
ب) التناقض وعدمه:
بعد أن تخطينا الفكرة الأولى وهي (الماهية والوجود)، وبينا وبشكل سريع آلية اشتغال هذين المفهومين عند كل من المثالية والمادية، سننتقل الى بيان الفكرة الثانية وهي القول بعدم التناقض أو القول به.
إن الفكر المثالي قد وضع قوانيناً عامة للتفكير،
بدأً من سقراط وأفلاطون قديماً، ثم الفارابي وابن سينا، وصولاً إلى كانت وهيكل وغيرهم، وان إحدى هذه القواعد المنطقية هي (أن النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان)، والدراسات الفلسفية عموماً لا تنظر إلى هذه القاعدة إلا من جهة استعمالها بين قضيتين متقابلتين، ولذا استعمل هذا المفهوم بصيغة المثنى دائماً (أي مع الألف والنون)، وذلك لمراعاتهم مسألة المقارنة بين الشيئين أو القضيتين.
وقد اوجد الفكر المثالي علاقات ثلاث تربط ما بين أي قضيتين في الوجود وهي: علاقة التماثل، علاقة التخالف، علاقة التقابل . ووضع المفكرون المثاليون هذه العلاقات الثلاث تحت عنوان (المتباينان)، ومعناه ان المفهوم من القضية (أ) غيره المفهوم من القضية (ب).
كما أن هذه القاعدة تسمى عند بعضهم بـ(تقابل الحدود)، والمراد منها اجتماع النقيضين غير ممكن لأن النقيضان (لا يجتمعان في شيء واحد في زمان واحد) وأضاف الشيرازي: عدم الاجتماع في الموضوع الواحد والزمان الواحد والجهة الواحدة ، وهو كذلك يقول " إما أن يكون احدهما عدمياً للآخر أولاً، والأول إن اعتبر فيه نسبتها إلى القابل لما أضيف إليه العدم فعدم وملكة، وان لم يعتبر فيه تلك النسبة فسلب وإيجاب، والثاني إن لم يعقل كل منهما إلا بالقياس إلى الأخر فهما المتضايفان وإلا منهما المتضادان" ، وعند الرجوع إلى منطق أرسطو فسنجد أن هذه المعطيات هي هي في الفكر المثالي، كما أن " لفظ التناقض "contradiction " مشتق من مقطعين في اللغة اللاتينية هما "cortra " بمعنى ضد او عكس، و"Dietum " بمعنى قول أو كلام" .
والتطبيق لما تقدم مثلاً: (أنا إما أن أكون موجوداً أو لا)، ولا يمكن أن يكون (أنا) موجوداً، وفي نفس الوقت (أنا) غير موجود.
أما الماديون
فاعترضوا على ذلك بقولهم أن لا قيمة لهذا المنطق أبدا، فما معنى إما أن يكون "أ" أو مناقضاً لـ"أ"، فهذا لا يصور لنا تجربة واقعية عامة، لأنه إن أردنا التعمق في البحث سنجد أن هناك كائنات حية لا يمكن تصنيفها ضمن طوائف الحيوان والنبات لأنها الاثنين معاً، كما انه ليس هناك حياةً مطلقة أو موت مطلق، وذلك لتجدد الكائن في نضال مستمر ضد الموت، بل حتى الموت هو حاملاً لحياةٍ جديدة لأنه يحلل الجسم إلى مواده الأولية .
كما أن المادية تؤمن بصراع المتضادات، فضلا عن اجتماع النقائض كما تقدم، وان هذه المسألة بالفكر المادي موجودة في جميع الأشياء والظواهر، وهي تشبه المغناطيس – جاذب الحديد – الذي يحتوي على جانبين متنافرين، فالتضاد والتناقض موجودان في كل شيء بهذا الواقع، حتى في العمليات الفكرية المعرفية، لاستخدام الإنسان طرقاً واساليباً متضادة ولكنها مترابطة كالاستقراء والقياس (المتضادان) وكالتحليل والتركيب (المتناقضان) .
وعلى ذلك فإن الفكر (المادي) يعد مثل هذه المتقابلات في الوجود أمرا حتميا،ً لضرورة واقعية، فهي لا تنفي بعضها البعض فقط، وإنما هي تفترض وجود بعضها للبعض الأخر، ولذا هي توجد بصورة مشتركة في الشيء أو الظاهرة، ولا يعقل أن يوجد احدها دون الأخر، ولذلك قال انجلز: " إن احد طرفي التناقض لا يمكنه أن يوجد في معزل عن الأخر، كما لا يمكن أن لا تضل في أيدينا تفاحة كاملة بعد أن نكون قد أكلنا نصفها " .
ج) مبدأ الثالث المستحيل:-
مبدأ الثالث المستحيل ، في الفكر المثالي
إن الحديث عن مفهومي السلب والإيجاب أو الوجود واللاوجود يستخدم في كلا المعقولات (الأولى والثانية) ، وقد قلنا أن لكل شيء في الوجود ماهية تكون بمثابة القوام الذي يتميز هو به، وتتم الماهية به، عن غيرها من الماهيات، فتعدد الماهيات لا يشير فقد إلى تعدد الذوات، بل ويشير إلى الكثرة كذلك، وبهذا فالماهية التي تقومت بالحيوانية والناطقية، تشير بهذا القوام إلى شمولية انطباق هذا المفهوم على مجمل مصاديق الإنسان، وعدها ماهية جمعت ما يشترك به النوع الإنساني من مميزات تميزه عن غيره من الماهيات، المتعددة والمتغيرة في هذا الواقع، وخروج باقي الماهيات عن النوع الإنساني يكون بمثابة السلب عن هذا المفهوم، فهو موجود لا يتصف بما تتصف به الماهيات الأخرى ومن هذه الجهة يكون السلب موجوداً مع كل شيء.
والسلب هو عدم الاتصاف بحالة ما وضعت كمحمول في القضية، والتي أضيفت الحالة إلى موضوعها سواء بنحو الصدق أو عدمه، ولكن الأمر الذي يجب أن يكون في نظر الاعتبار هو كيف يكون لهذه القضية أن تمتلك نظاماً يمكن له أن يكون موصوفاً بالشمولية، فيكون بمثابة القاعدة العامة التي ينزوي تحتها كماً من المصاديق، يمكننا أن نقول عنها أنها لا نهائية في تبدلاتها فنقول (معدن) ونقول (إنسان)، وهكذا، ونعلم بالعالم الإجمالي تعدد مصاديق المعدن وتعدد مصاديق الإنسان.
ونلاحظ أن كلاً من المعدن والإنسان بما هو مفهومان كليان متحدان في الحمل الذاتي، ومتغايران في الحمل الشايع، فلا المعدن إنسانا ولا الإنسان معدن ولا حالة وسيطة بينهما.
وعلى هذا فإن النقيضان " أمران وجودي وعدمي، أي عدم لذلك الوجودي، وهما لا يجتمعان ولا يرتفعان ببديهية العقل،ولا واسطة بينهما " ، فالإنسان نقيضه اللا- إنسان ومن ضمن هذه (اللا- إنسان) يدخل المعدن وغيره وهكذا فرق الفلاسفة بين جميع الموجودات، كما أن المقصود من الأمر الوجودي هو الإثبات والمقصود من الأمر العدمي هو السلب أو انتفاء القضية، هذا في الفكر المثالي.
أما مبدأ الثالث المستحيل ، في الفكر (المادي)،
فمثل هذا الكلام عندهم بعيد عن الواقع، لأن المنطق الشكلي أو الصوري غائر في المفاهيم والتي هي ألفاظ في النهاية، بينما الواقع لا يفصل بين وحدة الأضداد، وإذا ما نظرنا إلى قضية المنطقية بعمق تحليلي سنجد النقص فيها، وما ذلك الا بسبب حركة الواقع المستمرة وما هذه الحركة سوى ثمرة التناقضات .
ولأجل ذلك انطلقت (المادية) من الموضوعية القائلة: " إن الحقيقة التي نحصل عليها في عملية المعرفة تتعلق باستمرار بمجال حسي محدد من الواقع وتتطور في ظروف محددة أيضا ولا وجود لحقيقة مجردة، إن الحقيقة ملموسة دائماً " ، وما قدمه المنطق الشكلي أو الصوري وفقاً لذلك، لا يرتبط بالواقع المحسوس، خاصة إذا ما واجهه وجهاً لوجه ميدان العلوم المجهرية، فسرعان ما يفقد حقيقته المثالية.
كما أن معيار الحقيقة يعني العثور على الدليل الموضوعي، والمستقل، ولذا فإن المعيار الوحيد للحقيقة هو التطبيق المختبري، ولذا قال ماركس" إن مسألة ما: إذا كان للتفكير الإنساني حقيقة مادية أم لا ليست مسألة نظرية أبدا إنها مسألة علمية " . فللتطبيق أهمية في تحقيق المسائل الواقعية عندهم، بينما في الفكر المثالي نجد وكما تقدم إن الإنسان أو العقل هو معيار الحقيقة وان المنطق هو علم الفكرة المجردة .
احمد جمعة
جامعة بغداد
كلية الفنون الجميلة
http://www.cofarts.uobaghdad.edu.iq/ArticleShow.aspx?ID=25
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق