الاثنين، 1 أغسطس 2011

التيسير الكمي: سياسات زيادة حجم الميزانية

طباعة المزيد من الدولار «التيسير الكمي 2»
بواسطة د.محمد إبراهيم السقا

بتاريخ 15 أكتوبر 2010
على الرغم من أن
التيسير الكمي Quantitative easing عبارة حديثة نسبيا، إلا أنه يشيع استخدامها بكثرة هذه الأيام، وذلك بعد أن تزايدت الدلائل على لجوء الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي للقيام بطباعة المزيد من الدولار في خطة أطلق عليها التيسير الكمي 2 (QE2)؛ لمواجهة الأوضاع الاقتصادية المتردية حاليا، وللحيلولة دون تطور تلك الأوضاع على نحو أسوأ، وكان الاحتياطي الفيدرالي قد نفَّذ خطة التيسير الكمي الأولى في تشرين الثاني (نوفمبر) 2008، بضخ نحو تريليوني دولار، في محاولة لدفع مستويات النشاط الاقتصادي للخروج من الكساد،
لكن ما هو التيسير الكمي؟، 
ولماذا يلجأ إليه الاحتياطي الفيدرالي، بل والبنوك المركزية في دول العالم؟ 
وكيف يعمل؟
  سأحاول في هذا المقال تبسيط العرض الفني للموضوع بصورة كبيرة؛ حتى يتمكن القارئ غير المتخصص من المتابعة أيضا.

ببساطة شديدة،
التيسير الكمي هو قيام الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) بتخفيف القيود على الكميات المصدرة من الدولار من خلال طباعة كميات جديدة منه، ثم استخدام هذه الدولارات في شراء أوراق مالية، مثل السندات الحكومية؛ لتضاف إلى محفظة الأصول التي يملكها، فيرتفع جانب الأصول في ميزانية الاحتياطي الفيدرالي، وبالطبع يتم تسجيل الدولارات الجديدة التي يصدرها في جانب الالتزامات في ميزانية الاحتياطي الفيدرالي. بهذا الشكل يكون كل من جانبي الأصول والخصوم في الميزانية قد ارتفع بقيمة الأوراق المالية التي قام الاحتياطي الفيدرالي بشرائها، ويزيد بالتالي حجم ميزانيته؛ ولذلك يطلق على التيسير الكمي سياسات زيادة حجم الميزانية (ميزانية البنك المركزي).
ويعد التيسير الكمي إحدى أدوات السياسة النقدية التي تستخدم في أوقات الأزمات؛ ونظرا إلى أنه نادرا ما يستخدم، فإنه يعد من الأدوات غير التقليدية للسياسة النقدية، حيث تلجأ إليه البنوك المركزية في الظروف غير الطبيعية مثل الأزمة الحالية.
وببساطة شديدة، مرة أخرى، فإن السياسة النقدية 

إما أن تستهدف سعر النقود (معدل الفائدة) من خلال استخدام أدوات تؤدي إلى رفع أو تخفيض معدلات الفائدة، حسب مقتضيات النشاط الاقتصادي، وعندما يتغير معدل الفائدة ارتفاعا أو انخفاضا ينتقل أثر ذلك إلى النشاط الاقتصادي (الطلب الكلي) من خلال ما يسمى بـ “قناة معدل الفائدة” التي تتولى نقل تأثير خفض أو رفع معدل الفائدة إلى الطلب الكلي، ومن ثم معدلات النمو والتوظف والبطالة.
  أو قد تستهدف السياسة النقدية كمية النقود المتداولة في الاقتصاد، والتيسير الكمي هو أداة لتحقيق الأخيرة.
أما عن كيفية عمل التيسير الكمي،

فإن المشكلة الأساسية التي تواجهها البنوك المركزية التي تلجأ إلى هذه السياسية هي أنه في أوقات الكساد تعمل البنوك المركزية على خفض معدلات الفائدة؛ حتى تبلغ مستويات متدنية للغاية، ربما إلى الصفر، وعندما نصل إلى معدل الفائدة الصفري نكون قد وصلنا إلى ما يسمى بأرضية معدل الفائدة الاسمي، حيث لا يمكن تجاوز هذا الحد إلى أسفل، ومن ثم يفقد البنك المركزي فرصة استخدام جميع أدواته المتاحة لخفض معدلات الفائدة بصورة أكبر لتشجيع عمليات الائتمان في الاقتصاد، أي تصاب أدوات السياسة النقدية التقليدية بالشلل، ويصبح التيسير الكمي خيارا أكثر جاذبية للبنك المركزي، على الرغم من مخاطره.
وبما أن مستهدفات السياسة النقدية للاحتياطي الفيدرالي حاليا هي الحفاظ على معدل الفائدة بين صفر في المائة – 1/4 في المائة، 
فليس هناك مجال أكبر أمام الاحتياطي الفيدرالي لتخفيض معدل الفائدة المستهدف؛ لذا كان الحل في اللجوء إلى التيسير الكمي.
عندما تصل معدلات الفائدة إلى حدها الصفري فإن خيارات السياسة المتاحة أمام صانع السياسة النقدية مع بلوغ معدلات الفائدة المستهدفة إلى مستويات قريبة من الصفر لتحفيز الاقتصاد، تصبح محدودة جدا، 
ومن هذه الخيارات شراء السندات ذات الآجال الأطول لتعديل هيكل معدلات الفائدة، أو التيسير الكمي، وتخفيض معدلات الفائدة على الاحتياطيات الزائدة التي تحتفظ بها البنوك لدى الاحتياطي الفيدرالي،
وهو ما يؤدي إلى تقليل إقبال البنوك على الاحتفاظ بفوائض السيولة لديها لدى الاحتياطي الفيدرالي، الأمر الذي قد ينشّط أسواق الائتمان الخاص، أو رفع معدلات التضخم المستهدف؛ وذلك بهدف تعديل التوقعات التضخمية للجمهور، وهو ما قد يساعد على استعادة مستويات الأسعار المتوقعة بواسطة الجمهور عندما يقومون بعقد عقود في الأجل الطويل، مثل عقود الديون قبل أن يحدث الانكماش السعري.
غير أن مثل هذه الاستراتيجية غير مناسبة للولايات المتحدة في الوقت الحالي، حيت تتوافق التوقعات التضخمية مع التضخم الفعلي.
وقد أثبت التيسير الكمي من خلال تأثيره على هيكل معدلات الفائدة أثبت أنه كان إجراء فعالا في تخفيض معدل الفائدة من ثم تخفيض تكلفة الاقتراض في أسواق الائتمان الخاص.
ولكن إذا كان معدل الفائدة صفريا أو قريبا من الصفر فكيف يسهم التيسير الكمي في رفع مستويات النشاط الاقتصادي والخروج من حالة الكساد؟.

يمكن وصف الوضع الحالي في الولايات المتحدة على النحو التالي،
 أن معدل الفائدة الأساسي على قروض ما بين البنوك، أو ما يطلق عليه معدل الأموال الفيدرالية، وهو المستهدف الأساسي للسياسة النقدية الأمريكية، منخفض جدا (صفر تقريبا)، 
معنى ذلك أن البنوك الأمريكية تقترض احتياجاتها من الأموال بمعدلات منخفضة جدا، ويتمثل الهدف الأساسي من ذلك 
في حث البنوك على اقتراض المزيد من الأموال، ثم إعادة ضخ هذه الأموال للمقترضين من المستهلكين؛ لتمويل إنفاقهم الاستهلاكي، ولقطاع الأعمال الخاص، لتشجيع عمليات الاستثمار الخاص، ومن ثم زيادة مستويات الطلب الكلي، 
لكن البنوك الأمريكية لا تقوم بالإقراض، على الرغم من الفارق الكبير بين تكلفة اقتراضها ومعدل الفائدة على تلك القروض؛ نظرا إلى ارتفاع حالة عدم التأكد لديها حول احتمالات قيام المقترضين من المستهلكين وقطاع الأعمال الخاص بإعادة سداد هذه القروض، طالما أن الاقتصاد في حالة كساد، 
وبدلا من ذلك تقوم باستثمار أموالها في شراء سندات طويلة الأجل، هذه السندات تقدم للبنوك معدلات فائدة منخفضة، لكن درجة المخاطرة المصاحبة للاستثمار فيها منخفضة أيضا.
الأموال إذن لا تتدفق من القطاع المالي إلى الاقتصاد للمساعدة في تنشيط حركة النمو، وتسريع عملية الخروج من الكساد الحالي،
  وليس هناك أي سبيل لحث البنوك على القيام بذلك، طالما أن توقعاتها حول مستويات النشاط الاقتصادي في المستقبل تشاؤمية.
ماذا يفعل الاحتياطي الفيدرالي إذن؟ 

الحل المقترح للخروج من هذا المأزق هو اللجوء إلى أسلوب غير تقليدي، يقوم من خلاله الاحتياطي الفيدرالي بطبع مئات المليارات من الدولارات، ثم استخدام هذه الدولارات في شراء الأوراق المالية من البنوك، مثل السندات، فيؤدي ذلك إلى رفع أسعار هذه السندات، ومن ثم انخفاض معدلات العائد الذي تحصل عليه البنوك من الاستثمار في هذه الأوراق المالية، الأمر الذي يجعل عملية الإقراض للأفراد ومؤسسات الأعمال التي ترتفع درجة ملاءتها المالية نسبيا أمرا أكثر جاذبية من الاستثمار في تلك الأوراق.
بهذا الشكل تصل النقود المصدرة من جانب الاحتياطي الفيدرالي إلى أسواق الائتمان الخاص، ومع زيادة عمليات الائتمان للقطاع الخاص ترتفع مستويات الطلب الاستهلاكي والاستثماري، ومن ثم ترتفع مستويات التوظف والنمو وتتسارع عملية الخروج من الكساد.
هذا باختصار شديد آلية عمل التيسير الكمي، أو طباعة الدولار.
لكل أداة من أدوات السياسة النقدية قناة لنقل تأثير تلك الأداة إلى النشاط الاقتصادي، مثل قناة معدل الفائدة وقناة أسعار الأصول.. إلخ، ويطلق على قناة نقل أثر التيسير الكمي “قناة توازن أو تعديل المحافظ المالية”، وترتكز قناة التأثير على فرض أساسي هو أن الأدوات المالية المختلفة ليست بديلة لبعضها بعضا بشكل مطلق في محافظ المستثمرين، وبالتالي فإن التغيرات في صافي العرض المتاح من هذه الأدوات للمستثمرين يؤثر على معدل العائد الذي تحققه، وكذلك على تلك الأدوات المالية البديلة لها.
وعلى ذلك فإن مشتريات البنك المركزي من السندات طويلة الأجل تؤثر في الأوضاع المالية، وذلك من خلال تغيير كمية وتركيبة الأصول المالية التي يتم الاحتفاظ بها في المحافظ المالية (بالطبع للمؤسسات المالية الكبرى).

حيث تؤدي مشتريات البنك المركزي من السندات إلى تقليل معدلات العائد عليها؛ نتيجة لانخفاض المعروض من هذه السندات للجمهور، وبالتالي ارتفاع أسعارها، الأمر الذي يدفع المستثمرين (المؤسسات المالية) إلى طلب سندات مشابهة في الخصائص من حيث درجة المخاطرة ومدد الاستحقاق، وهو ما يخفض من معدلات العائد على هذه الأصول الأخرى أيضا، الأمر الذي يساعد على زيادة الائتمان المتاح في أسواق الائتمان الخاص.
كما أشرنا أعلاه، سبق أن قام الاحتياطي الفيدرالي بتنفيذ خطة للتيسير الكمي يطلق عليها حاليا
التيسير الكمي الأول QE1، التي تمت عبر أشهر عدة بدأت في 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008، حينما أعلن الاحتياطي الفيدرالي شراء 100 مليار من السندات الإسكانية للمؤسسات التي ترعاها الحكومة (مؤسستي فاني ماي وفريدي ماك والبنوك الفدرالية العقارية)، وكذلك شراء سندات بـ 500 مليار دولار من سندات الرهن العقاري والمدعومة من مؤسسات الرهن العقاري فاني ماي وفريدي ماك وفاني جيني، وفي 28 كانون الثاني (يناير) 2009 أعلنت لجنة السوق المفتوح FOMC في الاحتياطي الفيدرالي أنها جاهزة لتوسيع برنامج التيسير الكمي من خلال شراء كميات كبيرة من ديون المؤسسات والسندات المدعومة بالرهن العقاري لتوفير الدعم لسوق المساكن وسوق الرهن العقاري. كذلك أعلنت اللجنة استعدادها لشراء سندات بآجال زمنية أطول لتحسين الأوضاع في أسواق الائتمان الخاص،
وفي 18 آذار (مارس) 2009 قررت اللجنة زيادة حجم ميزانية الاحتياطي الفيدرالي بصورة أكبر من خلال شراء سندات مدعومة بالرهن العقاري بنحو 750 مليار دولار، وهو ما يصل بمشتريات الاحتياطي الفيدرالي من تلك السندات إلى 1.25 تريليون دولار في ذلك العام،
  ولتوفير الدعم إلى أسواق المساكن والرهن العقاري وزيادة مشتريات ديون المؤسسات التي ترعاها الحكومة إلى 200 مليار، كما قررت شراء نحو 300 مليار دولار من السندات الحكومية ذات الآجال الأطول؛ وذلك لتحسين الأوضاع في أسواق الائتمان الخاص.
  بانتهاء خطة التيسير الكمي الأولى كان قد تم ضخ تريليوني دولارا تقريبا في شراء الأصول المالية وطبع دولارات جديدة في مقابل هذه الأصول المالية.
النتيجة الطبيعية لعمليات التيسير الكمي هذه هي ارتفاع حجم ميزانية الاحتياطي الفيدرالي إلى مستويات لم تبلغها من قبل.
استطاعت خطة التيسير الكمي، إضافة إلى برامج التحفيز الأخرى، تحسين أوضاع أسواق الائتمان بصورة جوهرية، وأخذت معدلات النمو ترتفع على نحو واضح، حتى خرج الاقتصاد الأمريكي بالفعل من حالة الكساد، كما سبق أن ذكرنا بالتفصيل في الأسبوع الماضي.

غير أن الأوضاع الاقتصادية الكلية حاليا يحيط بها عديد من المخاطر، بصفة خاصة تلك المرتبطة بضغوط سوق العمل، واستمرار ارتفاع معدلات البطالة على نحو غير مسبوق منذ الكساد العالمي الكبير، نتيجة ضعف معدلات النمو، وقد أدى ارتفاع معدل البطالة إلى تقييد دخول القطاع العائلي، ومن ثم أثار قدرا كبيرا من عدم التأكد حول درجة أمان الوظائف، وانخفضت بالتالي درجة الثقة في الأوضاع الاقتصادية الكلية.
ولا شك أن البطالة تعد من أكبر التحديات التي تواجه الاقتصاد الأمريكي، وأن خفض معدلات البطالة سيتطلب المزيد من الوقت قبل أن تعود إلى مستوياتها في الأجل الطويل، لكن ما إن يبدأ الاقتصاد يقوى وتؤمن الشركات بأن استعادة النشاط تأخذ النمط المستدام، فإن معدلات التوظيف والنمو سترتفع، وحتى يحدث ذلك لا بد للاحتياطي الفيدرالي من التحرك على نحو فعال.
  كما تلتزم لجنة السوق المفتوحة بحماية الاقتصاد من التضخم، فإنها أيضا ملتزمة بمقاومة تحول الأسعار في الاتجاه النزولي،
  وتشير تطورات معدل التضخم إلى ارتفاع مخاطر الانكماش السعري (تراجع الأسعار)، حيث أصبح الخطر الذي يتخوف منه البعض الآن ليس التضخم وإنما الانكماش السعري،
  لكن أليس الانكماش السعري أمرا جيدا، أن يرى الناس الأسعار تنخفض؟..
الإجابة هي لا؛ 
لأن الانكماش السعري له مضاره أيضا، على سبيل المثال أدى الانكماش السعري في اليابان إلى تراجع واضح في معدلات النمو، وزيادة معدلات البطالة، واضطراب في القطاع المصرفي وقطاع الإنتاج، وبغض النظر عن الأسباب، فإن الانكماش السعري لعب دورا مهما في استمرار الركود الاقتصادي لليابان.
الجميع الآن يخشى من انخفاض الأسعار أكثر من التضخم الذي تصل معدلاته حاليا إلى الصفر تقريبا؛ لأن الانكماش السعري يمكن أن يسبب ما يسمى بالحلزون النزولي للأسعار، الذي ما إن يبدأ حتى يمثل تهديدا خطيرا للاقتصاد، حيث يصعب وقفه.

المشكلة أنه مع تراجع الأداء على المستوى الكلي فإن مخاطر الانكماش السعري تتزايد، ومن المعلوم أن هناك تعارضا بين هدفي الاستقرار السعري والنمو، لكن في ظل الأوضاع الحالية ليس هناك تعارض بين الهدفين، حيث إن رفع معدلات النمو يساعد على مكافحة الانكماش السعري في الوقت ذاته.
تتصاعد التخمينات حاليا حول حجم التيسير الكمي المتوقع هذه المرة،
  فالبعض يرى أنه سيكون على نطاق واسع،
والبعض الآخر يعتقد أنه سيكون بجرعات خفيفة هذه المرة، أو ربما يكون التدخل تدريجيا من خلال البدء بعمليات شراء على نطاق محدود، حيث يمكن تعديل عمليات الشراء استنادا إلى ما يحدث لعملية استعادة النشاط،
لكن من المؤكد أن حجم التيسير الكمي الذي يتوقع أن تعلن عنه لجنة السوق المفتوح في الثالث من تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل
سيعتمد على مسار عديد من المؤشرات الاقتصادية، أهمها تقرير أوضاع سوق العمل في أيلول (سبتمبر)، الذي أصدره مكتب إحصاءات العمل أخيرا، 
وجاء لسوء الحظ مخيبا للآمال، حيث حمل أخبارا غير سارة عن معدلات فقدان الوظائف في سوق العمل الأمريكية، وضعف عمليات خلق الوظائف من جانب قطاع الأعمال الخاص، مع استمرار معدلات البطالة عند 9.6 في المائة، وهو معدل مرتفع جدا مقارنة بالاتجاه العام لمعدل البطالة في الولايات المتحدة.
كما سيعتمد كذلك على التقديرات المبدئية حول معدل النمو في الاقتصاد الأمريكي للربع الثالث من هذا العام، الذي سيعلن في 29 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري.

لكن ماذا عن مخاطر التيسير الكمي؟

تتمثل المشكلة الأساسية في خيار التيسير الكمي في أن الاحتياطي الفيدرالي ليس لديه تجربة كافية في تطبيق هذه الأداة من أدوات السياسة النقدية، ومن ثم فليس لديه معلومات دقيقة حول الآثار الكامنة لمثل هذا الخيار، بصفة خاصة الأثر على سوق المال.
ذلك أن أكبر الآثار الإيجابية لهذا الخيار تحدث عندما تزداد الضغوط المالية، وتكون السيولة محدودة في الأسواق، ومن ثم تكون معدلات الفائدة مرتفعة،
  لكن عندما تكون معدلات الفائدة منخفضة، مثلما هو الحال الآن، يصعب التكهن بنتائج هذا الخيار بدقة.
مصدر القلق الثاني هو أن لجوء الاحتياطي الفيدرالي إلى التوسع في ميزانيته يمكن أن يقلل من ثقة الجمهور في قدرته على رسم وتنفيذ خطة سلسة للخروج من السياسات التي يتبعها في الوقت الحالي، ومثل هذا الشعور لدى الجمهور يمكن أن يزيد من التوقعات التضخمية في المستقبل.
بالطبع فإنه في مثل الظروف الحالية
عندما يكون التضخم منخفضا أو سالبا، فإن مثل هذه التوقعات تكون إيجابية على الاقتصاد، ولطمأنة الجمهور في هذا الصدد قام الاحتياطي الفيدرالي بتطوير مجموعة من الأدوات التي تضمن خروجه من هذه السياسات التوسعية بيسر عندما يتطلب الأمر ذلك، على أمل أن يساعد ذلك في طمأنة الجمهور ويعطي الحرية للبنك المركزي للقيام بعمليات التيسير الكمي.
أما أكبر مخاطر التيسير الكمي
فهي أن يفقد الدولار الثقة فيه، ويسارع الجمهور بالتخلص من الأصول المالية الدولارية، بصفة خاصة خارج الولايات المتحدة، ويفقد الدولار دوره كعملة الاحتياط الأولى للعالم، ومن ثم يخرج التضخم عن نطاق السيطرة، وهي كلها احتمالات ضعيفة جدا.
بقي أن أشير إلى
أن التيسير الكمي سياسة لا يقتصر استخدامها حاليا على الولايات المتحدة، ففي خطوة أحدثت صدمة في الأسواق عبر دول العالم، أعلن بنك اليابان عن خطة ضخمة للتيسير الكمي بشراء أصول جديدة وخفض معدلات الفائدة لمدة ليلة إلى مستويات قريبة من الصفر. كما يتردد الآن أن البنك المركزي البريطاني ينوي بدء خطة للتيسير الكمي.
بعد إعلان البنك المركزي الياباني خطته ارتفع
الذهب بأكثر من 20 دولارا، وبالطبع لن تكون هذه هي القفزة الأخيرة، فمن المتوقع حدوث قفزة أخرى في أسعار الذهب في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل مع إعلان الاحتياطي الفيدرالي لخطة التيسير الكمي الثانية.
من المتوقع أيضا أن تشهد
أسواق الأسهم زيادة في الأسعار، بصفة خاصة في الأسواق الناشئة، والمتتبع لأسعار الأصول والسلع يلاحظ أن آثار الإعلان عن خطة التيسير الكمي الثانية واضحة على الأصول كافة تقريبا، فقد أخذت أسعار الأسهم في التزايد.
كما ارتفعت قيم
العملات الأجنبية بالنسبة إلى الدولار بصفة خاصة اليورو الذي حقق مكاسب واضحة أمام الدولار، كذلك أخذت أسعار النفط في التزايد على نحو واضح الأسبوعين الماضيين، 
وقد بات واضحا للعيان أن عملية التيسير الكمي التي تهدف إلى مساعدة الاقتصاد ربما تؤدي إلى تكوين بالون أسعار أصول.
وأخيرا، فإن البعض يعتقد أن الأزمة الحالية تمثل نهاية الاقتصاد الأمريكي، الذي لن تقوم له قائمة بعد اليوم،
فهل فعلا سيقع الاقتصاد الأمريكي في مصيدة الانكماش السعري ومن ثم في الركود طويل الأجل؟.
الإجابة هي بالتأكيد لا،
لأسباب عدة، أهمها المرونة الكبيرة والاستقرار الهيكلي الذي يتمتع بهما الاقتصاد الأمريكي، 
فقد تعرض الاقتصاد الأمريكي عبر عشرات السنين لعشرات الصدمات وأثبت قدرة واضحة على امتصاص جميع الصدمات التي تعرض لها، واستعاد نشاطه واستكمل نموه، وقد ساعدت مرونة الأسواق الأمريكية في رفع قدرة الاقتصاد الأمريكي على التعامل مع تلك الصدمات، 
وعلى الرغم من قوة الصدمة الأخيرة التي تعرضت لها سوق المال الأمريكية، إلا أن البنوك الأمريكية الكبرى ما زالت حتى الآن في وضع متين.
http://alphabeta.argaam.com/?p=21853


ماذا سيحدث للعالم نتيجة خطة التيسير الكمي 2

الجمعة، نوفمبر 12، 2010
نشر في صحيفة الاقتصادية السعودية بتاريخ الجمعة 12/10/2010

سبق ان تناولت موضوع التيسير الكمي Quantitative Easing في مقال سابق،وذكرت أن التيسير الكمي هو عملية خلق النقود من فراغ، حيث سيقوم الاحتياطي الفدرالي بزيادة الأساس النقدي Monetary Base في الولايات المتحدة، واستخدامه لشراء السندات الحكومية من المؤسسات المالية،
والتي يفترض أن تستخدم هذه الزيادة في الأساس النقدي في عمليات الإقراض وزيادة حجم الائتمان، وهو ما يؤدي إلى زيادة عملية خلق النقود بصورة مضاعفة، يعتمد ذلك على قيمة المضاعف النقدي Money Multiplier.

يوم الأربعاء الماضي 3 نوفمبر كشفت اللجنة الفدرالية للسوق المفتوح FOMC بالاحتياطي الفدرالي عن خطتها للتيسير الكمي2 التي ستنفذها حتى نهاية منتصف العام القادم، وذلك بتوسيع نطاق الاحتفاظ بالأوراق المالية في حساب النظام الفدرالي للسوق المفتوح SOMA، لتشجيع عملية استعادة النشاط الاقتصادي، من خلال شراء ما قيمته 600 مليار دولار من السندات، أو بالأحرى إصدار 600 مليار دولارا، لتضاف إلى الرصيد الحالي من الأساس النقدي الأمريكي، وهو ما يعني ضخ حوالي 75 مليار دولارا شهريا في المتوسط من النقود الجديدة.
بالإضافة ذلك سوف يستمر الاحتياطي الفدرالي في عمليات إعادة استثمار حصيلة إيرادات السندات التي حل تاريخ استحقاقها، حيث يقدر أن تقوم لجنة السوق المفتوح بشراء ما قيمته 35 مليار دولار من السندات في صورة إعادة استثمار، وهو ما يعني شراء 110 مليار دولارا في المتوسط شهريا. بهذا الشكل يتوقع أن تبلغ مشتريات الاحتياطي الفدرالي من السندات في إطار الخطة ما بين 850 إلى 900 مليار دولارا.

من ناحية أخرى فقد قررت لجنة السوق المفتوح أن يتم تخصيص حوالي 85% من هذا المبلغ لشراء سندات تترواح تواريخ استحقاقها بين 2.5 – 10 سنوات، وذلك بهدف التأثير على معدلات الفائدة طويلة الأجل وخفضها إلى مستويات دنيا (وهو ما يعني خلق فقاعة في أسعار السندات طويلة الأجل) وذلك للتأثير على معدلات العائد على السندات طويلة الأجل، ومن ثم دفع المؤسسات المالية إلى تحويل استثماراتها نحو إقراض القطاع الخاص.
خلال هذه المدة سوف يقوم الاحتياطي الفدرالي بالمراجعة الدورية لهذه السياسات لضمان اتساق النتائج مع تحقيق مستهدفاته العامة.
الأهداف المعلنة للاحتياطي الفدرالي هي تعظيم مستويات التوظف مع ضمان الحفاظ على استقرار الأسعار، أي توجيه أدوات السياسة النقدية لضمان تعظيم عملية خلق الوظائف والتأكد من استمرار استقرار الأسعار.
بصفة خاصة سوف تراقب لجنة السوق المفتوح مدى انحراف المعدلات المحققة من التضخم مع معدلات التضخم المستهدف، لضمان استقرار التوقعات التضخمية في الاقتصاد الأمريكي.

الوضع الحالي للاقتصاد الأمريكي
هو أنه ما زال يعاني من انخفاض سرعة استعادة النمو في الناتج، وبطء عملية خلق الوظائف التي تؤدي إلى استمرار معدلات البطالة عند مستويات مرتفعة من الناحية التاريخية، وهو ما يقيد الطلب الاستهلاكي، فعلى الرغم من تزايد الإنفاق الاستهلاكي الخاص إلا انه ما زال ينمو بمعدلات متواضعة نتيجة ارتفاع معدل البطالة وضعف معدلات نمو الدخل، كذلك فإن انخفاض قيمة المساكن، يؤثر سلبا على ثروة المستهلكين، وهو ما يقيد حجم الائتمان الاستهلاكي الذي يمكن ان يقدم لهم.
من ناحية أخرى فإنه وعلى الرغم من تزايد الإنفاق الاستثماري الخاص، إلا انه ما زال ينمو بمعدلات اقل مما كان عليه الحال في بداية العام، كذلك فإن الإنفاق الاستثماري في القطاع غير السكني ما زال متواضعا، كما أن عمليات بناء المساكن الجديدة تسير بوتيرة ضعيفة جدا، أكثر من ذلك فإن معظم قياسات التضخم الحالية تدور حول معدلات تقل عن 2% (المستوى المستهدف من التضخم للاحتياطي الفدرالي)، هذه المستويات المتراجعة، من التضخم تعني ان الاقتصاد يعاني من طاقة إنتاجية فائضة، ومع ميل معدلات التضخم نحو الانخفاض ترتفع احتمالات أن يواجه الاقتصاد الأمريكي مخاطر الانكماش السعري، وتعد هذه الأوضاع غير مريحة على الإطلاق لصانع السياسة الاقتصادية، بصفة خاصة صانع السياسة النقدية.
على سبيل المثال يشير بن برنانكي إلى ان التضخم المنخفض يمكن ان يوقع الاقتصاد الأمريكي في الخطر، خصوصا في ظل ضعف معدلات النمو، وعلى أسوأ الحالات يمكن ان يتحول التضخم المنخفض إلى انكماش سعري، الأمر الذي يحول الأزمة الحالية إلى ركود طويل الأجل.

كما سبق أن ذكرنا أنه عندما اشتعلت الأزمة قام الاحتياطي الفدرالي باستخدام التيسير الكمي بصورة مكثفة لدفع معدلات الفائدة إلى مستويات صفرية لتحفيز الاقتصاد، ونقل تأثير السياسة النقدية إلى القطاع الحقيقي من الاقتصاد من خلال القنوات التقليدية بصفة خاصة قناة معدل الفائدة، وقد تسببت عمليات شراء السندات من قبل الاحتياطي الفدرالي إلى زيادة ميزانيته بصورة حادة من 800 مليار إلى 2.3 مليارا.
غير أن خطة التيسير الكمي1، لم تسفر عن تحقيق الزيادة المرغوبة في عمليات الإقراض من قبل المؤسسات المالية، بصفة خاصة استمرت البنوك إما في شراء السندات، أو الاحتفاظ باحتياطيات زائدة ضخمة، أو إيداع أموالها لدى الاحتياطي الفدرالي، ومن ثم لم يترتب على عمليات التيسير الكمي1 زيادة محسوسة في عرض الائتمان، أما لارتفاع درجة المخاطر المصاحبة لإقراض القطاع الخاص، أو لأن المقترضين الذين ترتفع درجة ملاءتهم المالية لا يقبلون على الاقتراض.
في الوقت الذي ظلت فيه مؤسسات قطاع الأعمال صغيرة ومتوسطة الحجم، الغير قادرة على الوصول إلى سوق السندات، محرومة من تقديم الائتمان بالشروط المناسبة لاحتياجاتها.
على الرغم من هذه النتائج، فإن الاحتياطي الفدرالي يعود ويطبق نفس السياسات مرة أخرى، على أمل أن تحقق النتائج المرجوة منها هذه المرة.

وربما يثور تساؤل مستمر الآن وهو ماذا ينتظر العالم نتيجة تطبيق مثل هذه الخطة؟

هناك الكثير من الآثار المحتملة لتطبيق مثل هذه الخطة، سوف نحاول اختصارها في هذا المقال.
الأثر الأول المحتمل
هو أنه ربما لا يترتب على تنفيذ هذه الخطة ارتفاع في معدلات النمو، أو ربما في حال تحقق ارتفاع معدلات النمو، أن هذا النمو ربما يكون مؤقتا.
النتائج الأولية للإعلان عن خطة التيسير الكمي تبدو، على الأقل من الناحية النظرية، مشجعة للنمو، خصوصا مع ميل معدلات الفائدة طويلة الأجل نحو التراجع، وارتفاع أسعار الأصول، مثل هذه الأوضاع السهلة في سوق المال تساعد على تهيئة المناخ لارتفاع معدلات النمو الاقتصادي.
على سبيل المثال، فإن انخفاض معدلات الفائدة طويلة الأجل يقلل من معدلات الفائدة على الإقراض العقاري، حيث تصبح المساكن سهلة المنال، وهو ما يشجع الكثير من أصحاب المساكن على إعادة التمويل.
من ناحية أخرى فإن انخفاض أسعار الفائدة على السندات سوف يشجع الاستثمار،
كما أن ارتفاع أسعار الأسهم سوف يعكس ارتفاعا في مستويات الثروة، وهو ما يؤدي إلى زيادة الإنفاق، ومن ثم رفع مستويات الدخول والأرباح، وهو ما سيؤدي إلى دعم التوسع الاقتصادي.


غير أن هذا التحليل يبقى تحليلا نظريا، وليس شرطا أن يتحقق على أرض الواقع، ولذلك يميل بعض المحللين من المتشائمين إلى التأكيد على أن الولايات المتحدة ما زالت تعاني من ظاهرة مصيدة السيولة Liquidity Trap، ومن ثم ليس من الواضح ما إذا كانت أموال خطة التيسير الكمي سوف تؤدي إلى إحداث أي آثار ايجابية على مستويات الائتمان، أم ستدخل المصيدة دون أن تتحول إلى قروض ائتمانية للقطاع الخاص،
ومن وجهة نظر هؤلاء فإنه حتى لو أدت الخطة إلى التأثير على هيكل أسعار الفائدة طويلة الأجل بالانخفاض، فليس هناك ما يدعو إلى التوصل إلى الخلاصة القائلة بأن البنوك سوف تقوم بالإقراض، أو ان الشركات سوف تقبل على الاقتراض، طالما ان التوقعات تشاؤمية وأن درجة الثقة في مستقبل الأوضاع الاقتصادية على المستوى الكلي ما زالت متدنية.


الأثر الثاني المحتمل
هو أن يترتب على الخطة ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة، وفي وجهة نظري ربما يكون هناك قدر من المبالغة في التوقعات التضخمية التي يمكن ان تنشأ عن الخطة، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار ظروف الأزمة التي يعيشها الاقتصاد الأمريكي. ل
قد تم تنفيذ خطة التيسير الكمي1 بحجم يمثل ضعفين ونصف ضعف الخطة الحالية، ومع ذلك لم يرتفع معدل التضخم، بل على العكس، إن التخوف الحالي ليس من تضخم الأسعار، وإنما بصورة اكبر من انكماش الأسعار.
وعلى أسوأ الفروض لو حدث التضخم، فإن التعامل مع التضخم ليس بتلك المهمة المستحيلة، كل ما سيحتاجه الاحتياطي الفدرالي هو إتباع سياسات نقدية تقييدية، مع تحمل بعض الآثار المعاكسة على النمو.
المهم الآن هو الخروج من الأزمة والعودة بمعدلات النمو إلى مستوياتها الطبيعية، والناتج إلى مستوياته في الأجل الطويل.
إذا كان الوضع كذلك فلماذا هذه الحساسية المفرطة للخطة الحالية وردة فعل الأسواق الشديدة لها مقارنة بالخطة السابقة؟.


الواقع ان الخطر الحقيقي لخطة التيسير الكمي الحالية ليس على معدلات التضخم في الولايات المتحدة، بقدر ما هو على معدلات التضخم العالمي.
حيث من المتوقع ان تأخذ أسعار السلع التجارية الدولية في الارتفاع، مثلما حدث بالنسبة لأسعار النفط.
ارتفاع أسعار السلع التجارية يعرض معظم دول العالم لصدمة تضخم مستورد، الأمر الذي سيرفع من درجة عدم التأكد ومن ثم يؤثر سلبا على الأفاق المستقبلية للنمو في العالم.
من ناحية أخرى فإن بعض المحللين ينظر إلى سيناريو التضخم الركودي Stagflationعلى أنه السيناريو الأكثر احتمالا، وذلك استنادا إلى انه إذا كان التيسير الكمي سيفشل في دفع النمو الذاتي للاقتصاد الأمريكي، فإن تزايد الأجور في البلاد الناشئة التي تستورد منها الولايات المتحدة احتياجاتها سوف يرفع من معدلات التضخم المستورد، أي أن الولايات المتحدة ربما لا تستطيع ان تواجه التضخم من خلال الواردات الرخيصة، خصوصا وأنه مع تراجع قيمة الدولار سوف تميل أسعار السلع التجارية في العالم نحو التزايد، كما سبقت الإشارة إلى الارتفاع، لتضيف المزيد من الوقود على نار التضخم المتوقع.


الأثر الثالث
هو ان المشكلة الأساسية في الخطة الحالية هي أنه من المتوقع ان يترتب عليها تغير واضح في الأوضاع النسبية للعملات العالمية بالنسبة للدولار، وهو ما ينعكس على القدرات التنافسية لعدد كبير من الدول بما فيهم الصين، حيث ستؤدي خطة التيسير الكمي إلى تزايد الضغوط على اليوان نحو الارتفاع، وهو الأمر التي حاولت الصين جاهدة طوال السنوات السابقة أن تتجنبه، وذلك من خلال التدخل المكثف في سوق الصرف الأجنبي للحفاظ على اليوان اقل من قيمته الحقيقية.
من خلال خطة التيسير الكمي تجبر الولايات المتحدة الصين على أن ترفع قيمة اليوان في مواجهة الدولار الضعيف، ومن ثم فإن ما كانت تطالب به الولايات المتحدة عن طريق التفاوض، أصبحت تحصل عليه الآن من خلال وضع الصين أمام الأمر الواقع.
مثل هذه الأوضاع يمكن ان تجر دول العالم إلى محاولة الدفاع عن مصالحها من خلال ردود فعل وقائية، أو انتقامية، تشكل الأرضية اللازمة لانطلاق حرب للعملات على نطاق واسع، وهي مسألة أعتقد أنها ستكون احد المحاور الأساسية في الاجتماع القادم لمجموعة العشرين.


الأثر الرابع
هو استمرار تراجع قيمة الدولار بصورة حادة في أسواق الصرف الأجنبي، وهو ما يضع الدول التي تربط عملاتها بالدولار مثل دول الخليج، والكثير من الدول النامية في العالم في خطر، حيث تصبح تلك الدول مجبرة الآن على أن تستورد السياسة النقدية للاحتياطي الفدرالي الذي يتبع سياسات فضفاضة، والتي ربما تكون سياسات مناسبة لأوضاع الاقتصاد الأمريكي، ولكنها بالتأكيد تعد غير مناسبة لتلك الاقتصادات، بصفة خاصة بالنسبة للاقتصاديات الناشئة والتي تعد أسرع دول العالم نموا، ومن المؤكد أن مثل هذه السياسات سوف يترتب عليها آثارا معاكسة على النمو، نتيجة ارتفاع أسعار الأصول.
لا شك أن معظم هذه الدول ربما تحتاج إلى إعادة النظر في ربط عملاتها بالدولار لتفادى الآثار السلبية للسياسة النقدية الفضفاضة للاحتياطي الفدرالي، ولكن المشكلة الأساسية تتمثل في أن الخيارات أمام هذه الدول تعد محدودة للغاية في ظل نظام نقدي عالمي وحيد العملة تقريبا، وحتي يتغير هذا الوضع سوف تستمر الولايات المتحدة تصدر التضخم لهذه الدول من خلال سياساتها النقدية الفضفاضة.


الأثر الخامس
هو على الدول التي تحتفظ باحتياطيات ضخمة من الدولار، والتي تشعر الآن أنها في ورطة كبيرة، مثل الدول الناشئة، بصفة خاصة الصين، والتي تجد نفسها في موقف لا تحسد عليه. من وجهة نظر الصين فإن خطة التيسير الكمي سوف تؤدي إلى تحقيق أضرار أكثر من المنافع المتوقعة لها.
والحقيقة عندما نحلل الآثار المحتملة للتيسير الكمي على الصين سوف نجد أن مخاوف الصين مبررة إلى حد كبير، فاحتياطياتها الضخمة من الدولار تتراجع في القيمة، بينما تجد أن الخيارات المتاحة أمامها للتعامل مع هذه الموقف محدودة جدا، حيث لا تستطيع للأسف ان تفعل شيئا في الأجل القصير، لأن أي تحرك على نطاق واسع من جانب الصين للتخلص من احتياطياتها الدولارية يمكن ان يترتب عليه انخفاض كبير في قيمة الدولار تدفع ثمنه الصين وليس الولايات المتحدة.


الموقف الصيني إذن في غاية الدقة، إذا علمنا أنه على الرغم من احتفاظ البنك المركزي الصيني بـ 2.5 تريليون دولارا من الاحتياطيات إلا أنه يفتقر إلى أدوات متطورة لتعقيم آثار مثل هذه الاحتياطيات والحد من الآثار التضخمية التي يمكن ان تنتج عنها.
بعض المستشارين ينصح الحكومة الصينية بتحويل هذه الاحتياطيات إلى ذهب أو نفط، أو أصول أخرى وهي نصيحة في منتهى الغباء، إذ أن مجرد الإعلان رسميا عن تقييم مثل هذه المبادرات، سوف يرفع أسعار الذهب إلى عنان السماء، ويجعل القيمة الحقيقية لتلك الاحتياطيات تحت رحمة التطورات في أسعار تلك السلع.
خلاصة القول أن الخيارات المتاحة للصين للتعامل مع احتياطياتها الضخمة تعد محدودة جدا للأسف، وليس أمامها من سبيل، على الأقل في الأجلين القصير والمتوسط، سوى الاستمرار في الاحتفاظ بتلك الاحتياطيات في صورة دولاريه، وتحمل أعباء السياسات النقدية الفضفاضة للولايات المتحدة.


الأثر السادس،
وهو في وجهة نظري، أسوأ نتائج التيسير الكمي، سوف يكون على الدول الفقيرة، حيث تمثل السلع الأولية مثل الغذاء، عماد الرقم القياسي للأسعار في تلك الدول، وبالتالي من المتوقع أن تواجه تلك الدول فاتورة غذاء ضخمة في موازين مدفوعاتها، فضلا عن تزايد الضغوط التضخمية، مع تراجع قيمة الدولار.
الارتفاع المحتمل لأسعار الحبوب الغذائية، سيعيد أزمة الغذاء العالمية إلى الواجهة مرة أخرى، بعد ان كانت قد خبتت جذوتها في أعقاب الأزمة المالية، وما يصاحبها من ارتفاع احتمالات الإصابة بأمراض سوء التغذية وارتفاع معدلات الوفيات.


تتصاعد المطالبات اليوم بإيجاد آلية من خلالها يتوصل العالم إلى تقييد قدرة الولايات المتحدة على التوسع في عمليات الإصدار الجديد من الدولار.
وهي في وجهة نظري مهمة شبه مستحيلة في الوقت الحالي، وذلك في ضوء عدم توافر عملة عالمية أخرى بديلة للدولار، أو يمكن ان تستعمل بجانب الدولار على نحو ملموس، في ظل هذا الوضع لن يمكن إجبار الولايات المتحدة على مراعاة اعتبارات الاستقرار النقدي الدولي عن طريق تبني سياسات نقدية تأخذ في الاعتبار، ليس فقط مصلحتها الداخلية، وإنما أيضا اعتبارات الاستقرار المالي عالميا.
لا شك أن العالم يعيش بالفعل موقفا حرجا للغاية، ويعيد إلى الأذهان الأوقات العصيبة التي عاشها في أوقات الأزمات التي تعرض لها الدولار مسبقا.


الأثر السابع
هو أن هناك مخاوف حقيقية بأن تلجا بعض دول العالم، بصفة خاصة الدول الناشئة، في محاولة منها للدفاع عن أسواق الأصول بها، إلى وضع قيود على تدفقات رؤوس الأموال لتفادي التدفقات الضارة لرؤوس الأموال الساخنة، بصفة خاصة الدولارية، على أسواق المال بها، حيث يمكن أن يتسبب ذلك في فقاعة أصول في هذه الدول، ولا شك ان تقييد تدفقات رؤوس الأموال عبر العالم سوف يؤثر سلبا على معدلات النمو الكامن.


باختصار شديد، العالم كله، غنيه وفقيره، يقع الآن في مرمى النيران التي أطلقها الاحتياطي الفدرالي إطار خطته للتيسير الكمي2 في الأسبوع الماضي.

والآن مع تصاعد كل هذا القلق والهجوم العالمي على الدولار،
هل يواجه الدولار آثارا ارتدادية على وضعه العالمي كعملة التداول والاحتياط الأولى في العالم؟
الإجابة هي للأسف لا!.
فليس هناك أي بديل جاهز حاليا لكي يحل محل الدولار، والدعوات التي تطلق من وقت لآخر بأن يتم إنشاء نظام عالمي متعدد العملات، هي مجرد صيحات بلا صدى على ارض الواقع، حيث يؤكد هذا الواقع أنه لا يوجد حاليا أمام العالم من خيار، للأسف الشديد، سوى الدولار الأمريكي، وأنه على العالم أن يتحمل تكلفة مثل هذا الوضع، حتى يتغير، شاء أم أبى.


ولكن إلى متى سيستمر الاحتياطي الفدرالي في إتباع هذه السياسات النقدية الفضفاضة؟
الذي يبدو لي هو أنه من الواضح أن إدارة الرئيس أوباما عازمة على الخروج من الأزمة بأي ثمن، إذ لا بد للإدارة الأمريكية الحالية أن تعيد تهيئة الأرضية بصورة مناسبة قبل انتخابات التجديد للرئيس، والذي أصبحت حظوظه حاليا في إعادة انتخابه محدودة بعد الهزيمة القاسية التي تعرض لها حزبه في انتخابات التجديد النصفي التي جرت منذ أيام، وحيث ستكون مهمة الفريق الاقتصادي للرئيس أصعب في ظل التركيبة الحالية للكونجرس ومجلس الشيوخ، فمن المؤكد أن نواب الحزب الجمهوري، الذين أصبح لديهم أغلبية الآن، سوف يقاومون بشدة أي محاولات من قبل الحزب الديمقراطي لتعديل الأوضاع الاقتصادية الداخلية، وذلك لتعزيز فرص فوز حزبهم بالرئاسة في الانتخابات القادمة.
ولذلك لن استغرب ان نقرأ عن خطط تيسير كمي3 و 4 وهكذا، حتى تستعيد قوى النمو عزمها الذاتي، ويبدأ الاقتصاد الحقيقي في النمو بعيدا عن قوى التحفيز، وتنخفض معدلات البطالة ربما إلى 7% أو اقل قليلا، حتى تتكون لدى الرئيس أوباما مجموعة من المؤشرات الايجابية على المستوى الكلي ليتمكن من أن يخوض بها الانتخابات القادمة، وبعدها من المؤكد ان سياسات التحفيز سوف تتراجع، عندها سوف تواجه الأسواق أزمة من نوع آخر، حيث ستنخفض أسعار الأصول، بصفة خاصة الأسهم، وكذلك سيواجه المضاربون في الذهب أخشى ما يخشون.

بقي أن أشير إلى ان خطة التيسير الكمي لا تعني أن الاحتياطي الفدرالي سوف يدير ماكينات طبع الدولار ليل نهار لطباعة المليارات اللازمة من الدولارات لتنفيذ الخطة، هذا الاعتقاد غير صحيح، بالعكس ربما لا يطبع الاحتياطي الفدرالي دولارا واحدا في إطار عملية التيسير الكمي، ذلك أن الدولارات الجديدة التي ستتم إضافتها إلى الأساس النقدي في الولايات المتحدة سوف يتم إضافتها الكترونيا، أي على هيئة قيود في جانب الالتزامات في ميزانية الاحتياطي الفدرالي، ثم تحول هذه الالتزامات إلى حسابات للمؤسسات المالية لدى الاحتياطي الفدرالي في صورة احتياطيات عند قيامه بشراء السندات منها، ليقوم بعد ذلك بتعلية جانب الأصول لديه بقيمة هذه السندات،
بمعنى آخر ليس هناك طباعة فعلية للمزيد من الدولارات، ولكن هذا لا يعني أن ذلك لن يحدث نفس الأثر على عرض النقود، بالعكس مع تزايد عمليات الائتمان سوف يتسع عرض النقود ومعها الضغوط التضخمية.


وأخيرا، وبغض النظر عن الصورة التشاؤمية التي وردت في هذا المقال، فإن الأمة الإسلامية تستعد لاستقبال عيد الأضحى المبارك بعد أيام، وبهذه المناسبة أتوجه إلى جميع القراء بأطيب التهاني والأماني بعيد سعيد، وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يعيده عليكم بالخير واليمن والبركات، كل عام وانتم بخير.
http://economyofkuwait.blogspot.com/2010/11/2.html

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق