مؤشر ناطحات السحاب
السبت, 17 إبريل 2010 الساعة 09:00
د. ياسر الششتاوي-أستاذ مشارك في قسم العمارة في جامعة الإمارات العربية المتحدة

#attachments { display: none; }
على هامش «مؤتمر التخطيط العمراني» الذي اختتم أعماله مؤخراً في إمارة عجمان، تم تنظيم رحلة للوفود المشاركة إلى برج خليفة.
وفي أثناء جلوسنا في واحد من المطاعم الكثيرة التي تطل على البرج في الطابق الثالث، أصابتنا الدهشة من الجموع الغفيرة من الناس الموجودة أسفل البرج، حيث كان الجميع يحاولون إلقاء نظرة على البرج والتقاط الصور التذكارية على مقربة منه.
ولا يمكن للمرء إلا أن يشعر بالدهشة إذا ما علم أن هذا المكان كان عبارة عن منطقة صحراوية قبل سنوات قليلة فقط.
لكنني تذكرت أن البرج يؤكد مرة أخرى على ما يطلق عليه «مؤشر ناطحات السحاب».
ويبدي علماء الاقتصاد رغبة جامحة إزاء صياغة جميع أنواع المؤشرات لقياس الأداء الاقتصادي الذي يتراوح من «الناتج القومي الإجمالي» المباشر، وصولاً إلى مؤشر «بيغ ماك» المتذبذب على سبيل المثال، والذي يعتمد عليه من أجل قياس القوة الشرائية بين عملتين مختلفتين. ويستخدم مؤشر «ناطحات السحاب»، وهو مقياس حصري، من أجل التنبؤ بحالات الركود الاقتصادية بالاعتماد على علاقة ظاهرة بين إنشاء الأبنية الشاهقة وظهور الأزمات المالية. وقام أندريو لورانس بصياغة هذا المؤشر في العام 1999، حيث وجد أن تشييد أطول مبنى في العالم يمكن اتخاذه دليلاً جيداً على بداية حالات الركود الاقتصادية الكبيرة.
ووصف لورانس مؤشره هذا على أنه «الترابط غير الصحي لفترة تصل مدتها 100 عام».
وتعد قدرة هذا المؤشر على التنبؤ بالانهيار الاقتصادي مذهلة للغاية. فعلى سبيل المثال، فقد سبق أزمة العام 1907 بناء مبنى «سنغر» الذي تم انتهاء العمل به في العام 1908، ومبنى «متروبوليتان لايف» الذي اكتمل بناؤه في العام 1909.
كما إن المؤشر تنبأ بدقة بالكساد العظيم مع انتهاء برج «فورتي وول تاور» في العام 1929، وبرج «كرايسلر» في العام 1930، ومبنى «إمباير ستيت» في العام 1931، وتوجد جميعها في حي منهاتن بمدينة نيويورك الأمريكية.
وأكد لورانس أن الاستثمار المفرط والتوسع النقدي والمضاربة تعد الأسس المحتملة التي يعتمد عليها هذا المؤشر.
كما يناقش عالم الاقتصاد ثورنتون، في تحليله لنظرية لورانس، المراحل المختلفة التي تسبق الانهيار الاقتصادي.
وبذلك، يتم الإعلان عن مشروع ناطحة السحاب، ويبدأ العمل بإنشائه خلال المرحلة الأخيرة من الطفرة في الدورة التجارية، وتحديداً عندما يكون الاقتصاد في طور النمو ومعدل البطالة بطيئاً، ثم يتبع ذلك تدهور حاد في الأسواق المالية وركود أو كساد اقتصادي، مع حدوث ارتفاع كبير في معدل البطالة.
ثم يكتمل العمل بناطحة السحاب خلال المرحلة المبكرة من التصحيح الاقتصادي، ما لم يتم الكشف عن هذا التصحيح في وقت مبكر وعلى نحو قد يتيح تأجيل أو شطب خطط الإنشاء بالكامل.
ويعد تحليل ثورنتون للأزمات المالية الآسيوية في تسعينات القرن الماضي متصلاً بمنطقتنا بشكل خاص.
فقد شهدت دول حوض الباسيفيكي، مثل هونغ كونغ وماليزيا وسنغافورة وفيتنام وكوريا الجنوبية نمواً اقتصادياً كبيراً خلال ثمانينات وتسعينات القرن الماضي.
ومع دخول الاقتصاد الرائد في المنطقة، وهو اليابان، في حالة ركود خلال معظم فترات الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، كان ينظر إلى النمور الآسيوية على أنها اقتصادات معجزة، لأنها كانت قوية جداً، وأظهرت قدرة فائقة على التحمل، على الرغم من صغر حجمها واحتمالات تعرضها للمخاطر.
وتم الانتهاء من إنشاء برجي «بتروناس» في العاصمة الماليزية كوالالمبور في العام 1997 لتسجل بذلك رقماً قياسياً جديداً كأطول مبنى في العالم بطول 452 متراً، متفوقاً بعشرة أمتار على الرقم القياسي القديم، علماً أن ارتفاع برجي «بتروناس» يصل إلى 88 طابقاً مقارنة مع المباني العملاقة القديمة التي كان يصل ارتفاعها إلى 110 طوابق في سبعينات القرن الماضي.
وبعد ذلك، شهدت سوق الأوراق المالية الماليزية انخفاضاً كبيراً، وانخفضت عملتها بشكل كبير، وانتشرت حالة من الاضطراب الاجتماعي هناك. وشاعت المشاكل المالية والاقتصادية في جميع اقتصادات المنطقة، حيث عرفت تلك الظاهرة بمصطلح «العدوى الآسيوية».
ويقودنا هذا السياق إلى منطقة الشرق الأوسط والأزمة المالية التي بدأت في العام 2008. فخلال معرض «سيتي سكيب» الذي استضافته مدينة دبي خلال شهر أكتوبر من العام 2008، أعلنت شركة التطوير العقاري «نخيل» عن إنشاء ناطحة سحاب يبلغ طولها أكثر من كيلومتر واحد، وتم الإعلان عن مشاريع مشابهة في كل من السعودية والكويت، وسبق ذلك بالفعل مواصلة عمليات الإنشاء لما كان يعرف في ذلك الوقت باسم «برج دبي». وعقب إعلان شركة «نخيل»، شهدت أسواق المال في كل أنحاء العالم انخفاضاً وصفه بعض المحللين على أنه «أسوأ أزمة مالية» منذ الكساد العظيم.
وتلقت دبي ضربة قوية بشكل خاص، بسبب اعتمادها على القطاع العقاري بالإضافة إلى القروض البنكية. ويبدو أن المؤشر تنبأ بالأزمة.
والسؤال هو بطبيعة الحال ما هي القيمة الممكنة لمثل تلك المشاريع؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تبدو معقدة بشكل واضح، لكن قد يكون من بين الأسباب الدافعة إلى ذلك انتصار روح الإنسان، لا سيما أن هذه المشاريع تمثل قمة التكنولوجيا، حسب ما جاء في مقال جديد نشر في صحيفة «نيويورك تايمز»، وأضاف إنها تكشف عن الكثير من طموحات وقدرات المجتمعات التي أنشأتها.
وفي حين إن المردودات المالية قد لا تكون ظاهرة بشكل فوري، إلا أن هذه المباني تظل قائمة لفترات طويلة بعد أي أزمة.
ولو أخذنا مبنى «إمباير ستيت» في نيويورك على سبيل المثال، سنجد أنه لا يزال يمثل علامة رئيسة في تلك المدينة، ناهيك عن السياح الذين يجلبهم إليها من كل أنحاء العالم.
وتصبح مثل تلك الأبراج في النهاية رمزاً للمدن التي توجد فيها. لذلك، فإنه لا ينبغي بأي حال أن نتوجه باللوم إلى برج خليفة في وقوع أحداث الأزمة المالية، بل إنه أصبح جزءاً من خط سير رحلة الزيارة إلى دبي، وسيستمر في لعب دور رئيس في الانتعاش الاقتصادي للمدينة.
ولو كان لديك شك حيال ذلك، ننصحك بأن تقوم بزيارة إلى البرج في مساء أي يوم من الأيام لتنضم إلى الجموع الغفيرة المحتشدة هناك.
للتواصل مع الكاتب: y.elsheshtawy@alrroya.com
http://www.alrroya.com/node/69829
السبت, 17 إبريل 2010 الساعة 09:00
د. ياسر الششتاوي-أستاذ مشارك في قسم العمارة في جامعة الإمارات العربية المتحدة
#attachments { display: none; }
على هامش «مؤتمر التخطيط العمراني» الذي اختتم أعماله مؤخراً في إمارة عجمان، تم تنظيم رحلة للوفود المشاركة إلى برج خليفة.
وفي أثناء جلوسنا في واحد من المطاعم الكثيرة التي تطل على البرج في الطابق الثالث، أصابتنا الدهشة من الجموع الغفيرة من الناس الموجودة أسفل البرج، حيث كان الجميع يحاولون إلقاء نظرة على البرج والتقاط الصور التذكارية على مقربة منه.
ولا يمكن للمرء إلا أن يشعر بالدهشة إذا ما علم أن هذا المكان كان عبارة عن منطقة صحراوية قبل سنوات قليلة فقط.
لكنني تذكرت أن البرج يؤكد مرة أخرى على ما يطلق عليه «مؤشر ناطحات السحاب».
ويبدي علماء الاقتصاد رغبة جامحة إزاء صياغة جميع أنواع المؤشرات لقياس الأداء الاقتصادي الذي يتراوح من «الناتج القومي الإجمالي» المباشر، وصولاً إلى مؤشر «بيغ ماك» المتذبذب على سبيل المثال، والذي يعتمد عليه من أجل قياس القوة الشرائية بين عملتين مختلفتين. ويستخدم مؤشر «ناطحات السحاب»، وهو مقياس حصري، من أجل التنبؤ بحالات الركود الاقتصادية بالاعتماد على علاقة ظاهرة بين إنشاء الأبنية الشاهقة وظهور الأزمات المالية. وقام أندريو لورانس بصياغة هذا المؤشر في العام 1999، حيث وجد أن تشييد أطول مبنى في العالم يمكن اتخاذه دليلاً جيداً على بداية حالات الركود الاقتصادية الكبيرة.
ووصف لورانس مؤشره هذا على أنه «الترابط غير الصحي لفترة تصل مدتها 100 عام».
وتعد قدرة هذا المؤشر على التنبؤ بالانهيار الاقتصادي مذهلة للغاية. فعلى سبيل المثال، فقد سبق أزمة العام 1907 بناء مبنى «سنغر» الذي تم انتهاء العمل به في العام 1908، ومبنى «متروبوليتان لايف» الذي اكتمل بناؤه في العام 1909.
كما إن المؤشر تنبأ بدقة بالكساد العظيم مع انتهاء برج «فورتي وول تاور» في العام 1929، وبرج «كرايسلر» في العام 1930، ومبنى «إمباير ستيت» في العام 1931، وتوجد جميعها في حي منهاتن بمدينة نيويورك الأمريكية.
وأكد لورانس أن الاستثمار المفرط والتوسع النقدي والمضاربة تعد الأسس المحتملة التي يعتمد عليها هذا المؤشر.
كما يناقش عالم الاقتصاد ثورنتون، في تحليله لنظرية لورانس، المراحل المختلفة التي تسبق الانهيار الاقتصادي.
وبذلك، يتم الإعلان عن مشروع ناطحة السحاب، ويبدأ العمل بإنشائه خلال المرحلة الأخيرة من الطفرة في الدورة التجارية، وتحديداً عندما يكون الاقتصاد في طور النمو ومعدل البطالة بطيئاً، ثم يتبع ذلك تدهور حاد في الأسواق المالية وركود أو كساد اقتصادي، مع حدوث ارتفاع كبير في معدل البطالة.
ثم يكتمل العمل بناطحة السحاب خلال المرحلة المبكرة من التصحيح الاقتصادي، ما لم يتم الكشف عن هذا التصحيح في وقت مبكر وعلى نحو قد يتيح تأجيل أو شطب خطط الإنشاء بالكامل.
ويعد تحليل ثورنتون للأزمات المالية الآسيوية في تسعينات القرن الماضي متصلاً بمنطقتنا بشكل خاص.
فقد شهدت دول حوض الباسيفيكي، مثل هونغ كونغ وماليزيا وسنغافورة وفيتنام وكوريا الجنوبية نمواً اقتصادياً كبيراً خلال ثمانينات وتسعينات القرن الماضي.
ومع دخول الاقتصاد الرائد في المنطقة، وهو اليابان، في حالة ركود خلال معظم فترات الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، كان ينظر إلى النمور الآسيوية على أنها اقتصادات معجزة، لأنها كانت قوية جداً، وأظهرت قدرة فائقة على التحمل، على الرغم من صغر حجمها واحتمالات تعرضها للمخاطر.
وتم الانتهاء من إنشاء برجي «بتروناس» في العاصمة الماليزية كوالالمبور في العام 1997 لتسجل بذلك رقماً قياسياً جديداً كأطول مبنى في العالم بطول 452 متراً، متفوقاً بعشرة أمتار على الرقم القياسي القديم، علماً أن ارتفاع برجي «بتروناس» يصل إلى 88 طابقاً مقارنة مع المباني العملاقة القديمة التي كان يصل ارتفاعها إلى 110 طوابق في سبعينات القرن الماضي.
وبعد ذلك، شهدت سوق الأوراق المالية الماليزية انخفاضاً كبيراً، وانخفضت عملتها بشكل كبير، وانتشرت حالة من الاضطراب الاجتماعي هناك. وشاعت المشاكل المالية والاقتصادية في جميع اقتصادات المنطقة، حيث عرفت تلك الظاهرة بمصطلح «العدوى الآسيوية».
ويقودنا هذا السياق إلى منطقة الشرق الأوسط والأزمة المالية التي بدأت في العام 2008. فخلال معرض «سيتي سكيب» الذي استضافته مدينة دبي خلال شهر أكتوبر من العام 2008، أعلنت شركة التطوير العقاري «نخيل» عن إنشاء ناطحة سحاب يبلغ طولها أكثر من كيلومتر واحد، وتم الإعلان عن مشاريع مشابهة في كل من السعودية والكويت، وسبق ذلك بالفعل مواصلة عمليات الإنشاء لما كان يعرف في ذلك الوقت باسم «برج دبي». وعقب إعلان شركة «نخيل»، شهدت أسواق المال في كل أنحاء العالم انخفاضاً وصفه بعض المحللين على أنه «أسوأ أزمة مالية» منذ الكساد العظيم.
وتلقت دبي ضربة قوية بشكل خاص، بسبب اعتمادها على القطاع العقاري بالإضافة إلى القروض البنكية. ويبدو أن المؤشر تنبأ بالأزمة.
والسؤال هو بطبيعة الحال ما هي القيمة الممكنة لمثل تلك المشاريع؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تبدو معقدة بشكل واضح، لكن قد يكون من بين الأسباب الدافعة إلى ذلك انتصار روح الإنسان، لا سيما أن هذه المشاريع تمثل قمة التكنولوجيا، حسب ما جاء في مقال جديد نشر في صحيفة «نيويورك تايمز»، وأضاف إنها تكشف عن الكثير من طموحات وقدرات المجتمعات التي أنشأتها.
وفي حين إن المردودات المالية قد لا تكون ظاهرة بشكل فوري، إلا أن هذه المباني تظل قائمة لفترات طويلة بعد أي أزمة.
ولو أخذنا مبنى «إمباير ستيت» في نيويورك على سبيل المثال، سنجد أنه لا يزال يمثل علامة رئيسة في تلك المدينة، ناهيك عن السياح الذين يجلبهم إليها من كل أنحاء العالم.
وتصبح مثل تلك الأبراج في النهاية رمزاً للمدن التي توجد فيها. لذلك، فإنه لا ينبغي بأي حال أن نتوجه باللوم إلى برج خليفة في وقوع أحداث الأزمة المالية، بل إنه أصبح جزءاً من خط سير رحلة الزيارة إلى دبي، وسيستمر في لعب دور رئيس في الانتعاش الاقتصادي للمدينة.
ولو كان لديك شك حيال ذلك، ننصحك بأن تقوم بزيارة إلى البرج في مساء أي يوم من الأيام لتنضم إلى الجموع الغفيرة المحتشدة هناك.
للتواصل مع الكاتب: y.elsheshtawy@alrroya.com
http://www.alrroya.com/node/69829
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق