الأربعاء، 1 يوليو 2015

هل فقدت السياسة النقدية في العراق مصداقيتها وشفافيتها؟

هل فقدت السياسة النقدية في العراق مصداقيتها وشفافيتها؟

د. بارق شُبَّر (*):

– نشر في 25/06/2015


خلال الايام القليلة الماضية

تراجعت قيادة البنك المركزي العراقي عن عدد من الإجراءات

التي كانت قد اتخذتها خلال الاشهر الأربعة الماضية

والتي كادت ان تؤدي الى انهيار قيمة العملة الوطنية،

في الوقت الذي يفترض فيه

أن تحافظ هذه المؤسسة الاقتصادية المستقلة عليها

وعلى توازن سعر العملة الوطنية مع العملة الاجنبية كمهمة رئيسية للبنك،

كما حددها الدستور في المواد (103 و 110) وقانون البنك المركزي لسنة 2004.

هذه الإجراءات هي:

التقليص الحاد للمعروض من الدولار المخصص للبيع،

وعدم اشباع طلب القطاع الخاص والأسري على الدولار

على إثر تمرير قانون الموازنة العامة لسنة 2015 الذي تضمن المادة 50 منه

إثارة الكثيرمن الجدل،

والتي تفرض على السياسة النقدية قيوداً كمية لبيع الدولار

حددت بمبلغ 75 مليون دولار يومياً،

في حين كان الطلب يتجاوز ضعف هذا السقف

ووصل في بعض الايام في بداية هذا العام الى أكثرمن ثلاثة اضعاف السقف

(250 مليون دولار في 5 كانون اول 2015).

جباية نسبة 8% من قيمة الحوالات

كتأمينات عن الرسوم الجمركية وضريبة الدخل،

يتم الاحتفاظ بها في حالة عدم الاستيراد من قبل التجار أصحاب الحوالات.

أعلن البنك المركزي في 20/6/2015 التوقف عن الجباية.

مع ملاحظة ان هذا الاجراء لم يمثل عاملاّ مؤثراً على سعر الصرف.

توجيه المصارف بموجب الاعمام المؤرخ في 25/5/2015

برفض طلبات المواطنين السحب بالدولار من الودائع الدولارية في حساباتهم لدى المصارف،

وإنما تسليمهم الدينار العراقي حسب سعرالصرف الرسمي

والذي كان يقلُّ بحوالي 15% عن سعر السوق الموازي.

لم ينشر البنك المركزي هذا الاعمام على موقعه،

ولكنه نشر الاعمام المؤرخ في 11/6/2015 والذي يلغي الاعمام الاول!

وجاءت ردود الأفعال على هذا التراجع متباينة،

بين سلبية من قبل بعض السياسيين واعضاء مجلس النواب

الذين عبروا عن انتقادهم للخنوع والتنازل الى ما أسموه بــ “الفاسدين والمافيات”؛

وايجابية منقبل القطاع الخاص المعني بالاستيراد، والمصارف،

وشريحة واسعة من الخبراء الاقتصاديين.

ولكن يبقى السؤال الملحّ مطروحاً، وهو:

هل توصل المركزي العراقي بعد هذة التراجعات المتتالية

الى تحقيق الاستقرار للعملة الوطنية وتوازنها مع العملات الاجنبية في الاجل الطويل؟

بعد أيام قليلة من تمرير قانون الموازنة العامة لسنة 2015

حذَّر الباحث الاقتصادي الزميل د. علي مرزا،

في بحثه القيم المنشور على موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين، منذ 1 شباط 2015

من الاثارالسلبية المتوقعة للمادة (50) على استقرار العملة الوطنية والتي حددت سقفاً لمبيعات الدولار.

ثم تبعه في التحذير الخبير المصرفي المخضرم موفق حسن محمود بنشره مقاله الموسوم

“أضواء على المادة(50) من قانون الموازنة العامة لعام 2015″

والمنشور على نفس الموقع منذ 21/2/2015.

فهل أستمع السياسيون واصحاب القرار في البنك المركزي الى تحذيرات الخبراء ونصائحهم المجانية؟

علمنا قبل يومين (23/6/2015) من السيد المحافظ بالوكالة في تصريحه لقناة الحرة عراق الفضائية

بأن البنك المركزي كان قد طعن بالمادة (50) في قانون موازنة سنة 2015،

ولكني ومن خلال متابعتيلمبيعات الدولار اليومية المنشورة على موقع البنك المركزي

أستطيع الجزم بأن ادارة البنك المركزي وجدت نفسها في مأزق لا يحسد عليه،

بين ضغوطات السياسيين لتنفيذ هذه المادة

وضغوطات قوى السوق لتلبية الطلب القوي على الدولار،

وكانت تحاول إرضاء الاثنين في آن واحد،

ولكنها فشلت في التوفيق بين المتناقضات.

الأرقام تشير على صحة تشخيص لحالة التأرجح في السياسة النقدية. 

وتجدرالإشارة الى بعض الامثلة القليلة التي تدل على التماشي مع احكام المادة (50)،

والارقام استقيتها من بيانات البنك المركزي المنشورة على موقعه:

في 1 شباط 2015

باع البنك المركزي العراقي مبلغ 75 مليون دولار فقط

في حين كان الطلب على الدولار من المصارف المشاركة في المزاد حوالي 246 مليون دولار.

البيانات الرسمية تذكر بأنه تم استبعاد مبلغ 171 مليون دولار

في 4 شباط 2015

بلغ طلب شراء الدولار من قبل المصارف 251 مليون دولار،

إلا ان البنك المركزي لم يبِع أكثر من 70 مليون دولار

وتم استبعاد أكثر من 181 مليون دولار من طلبات المصارف.

في 5 شباط 2015

باع المركزي العراقي أقل من السقف المحدد وفق المادة (50) وبواقع 72 مليون دولار فقط،

في حين كان الطلب حوالي 211 مليون دولار وتم استبعاد 139 مليون دولار.

وفي 8 شباط 2015

تراجعت مبيعات المركزي الى 69 مليون دولار فقط،

بينما كان الطلب على الدولار 196 مليون دولار وتم استبعاد 124 مليون دولار.

في يوم 2/6/2015

باع المركزي العراقي حوالي 44 مليون دولار فقط

ولم يفصح عن حجم الطلب على شراء الدولار ولا عن المبلغ المستبعد من المزاد،

حيث توقف البنك عن نشر هذه المعلومات في جداوله اليومية منذ 19 شباط 2015

(أنظر جداول البنك المركزي المنشورة على موقعه في ملف بي دي أف

تحت عنوان

“المصارف المشاركة والمستبعدة في قسم نافذة بيع وشراء العملية الاجنبية لسنة 2015″)

ومن جانب آخر تجدر الاشارة الى بعض الامثلة المعاكسة لأحكام المادة (50):

بتاريخ 26/4/2015

باع البنك المركزي ما مقداره 199 مليون دولار

من دون اعلان حجم الطلب الحقيقي على الدولار.

وفي 3/5/2015

باع المركزي العراقي 199 مليون دولار.

وفي 26/5/2015

حوالي 233 مليون دولار.

وفي 30/5/ 2015

ارتفعت مبيعات البنك المركزي الى 393 مليون دولار في يوم واحد

والباحث والمحلل الإقتصادي لا يعلم

إن كان هذا المبلغ قد لبّى الطلب الكلي على شراء الدولار أم لا،

للسبب المشاراليه سابقاً،

وهو حجب بيانات الطلب منذ 19 شباط 2015

وهذا يتعارض مع مبدأ الشفافية في السياسة النقدية.

بعض المحللين الاقتصاديين

أشاروا الى أن البنك المركزي غضَّ النظر عن الالتزام بالمادة (50)

ومن خلال الإشارة الى أن المعدل اليومي لمبيعات البنك المركزي من الدولار

تجاوز السقف المحدد (75 مليون دولار يومياً)

وارتفع من 86 مليون دولار في شهر شباط الى 134 مليون دولار في شهر نيسان

والى 165 مليون دولار في النصف الأول من شهر ايار،

وفق حسابات الزميل د. علي مرزا في مقاله الموسوم

“متابعة سوق الصرف في العراق منذ اقرار موازنة 2015 ”

والمنشور على موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين بتاريخ 18/5/2015.

وفي النصف الأول من شهر حزيران

بلغ المعدل اليومي لمبيعات الدولار 140 مليون دولار

بحسب بيانات البنك المركزي اليومية والمنشورة على موقعه في الانترنت.

من الواضح أن هذا النوع من “غض النظر” لم يكن حازماً وكافياً لاشباع الطلب  على الدولار،

كما بين الباحث د. علي مرزا في بحثه المشار اليه اعلاه.

ومن ذلك يمكن تفسير 

استمرار الفجوة بين السعرالرسمي لبيع الدولار وسعره في السوق في الارتفاع

من 6,3% كمعدل في شهر شباط الى 18,3% في 15 حزيران

وفق ارقام د. مرزا،

وبالرغم من هذا النوع الباهت من “غض النظر” عن تنفيذ المادة (50).

الزميل د. علي مرزا يبرر هذا الاستمرار في الفجوة في مقاله المشار إليه سابقاً

بوجود عوامل اخرى بجانب عدم اشباع الطلب من قبل البنك المركزي

ومن بينها الانخفاض الحاد في عائدات تصدير النفط الخام إلى حوالي النصف

ومخاوف البنك المركزي من نفاذ احتياطي العملة الاجنبية.

ولكن الزميل د. مرزا لم يعطي الاوزان الفعلية لكل من هذه العوامل الاخرى،

في حين أن التطورات الاخيرة تبرهن على كون آليات السوق

تمثل العامل الحاسم في تحديد سعر الصرف في نهاية المطاف.

أما الخبير الاستشاري المصرفي موفق محمود

فيشير في مقابلة خاصة معه الى بعض العوامل المهمة التي قادت الى ارتفاع الطلب على الدولار

ومن بينها:

تعليمات المركزي الى المصارف لصرف الودائع الدولارية بالدينار العراقي  

وقبلها

تعليمات صرف الحوالات الواردة من الخارج  بالدينار العراقي وليس بعملاتهاالاصلية

تدني الثقة بالجهاز المصرفي

بسبب امتناع عدد من المصارف عن صرف الصكوك بالدينار وبالدولار على حد سواء

 ( مصارف الشرق الأوسط ، الاقتصاد ، بابل ، الشمال ،

وقبلها الوركاء ومصارف اخرى لا تحظرني )

الامر الذي يدفع الجمهور ( القطاع التجاري والعائلي )

الى الاحتفاظ بأموالهم تحت المخدة

وبالدولار بالدرجة الاولى   للحفاظ على قيمها،

وهذا مؤشر خطير على انخفاض مصداقية البنك المركزي

انتعاش  التوقعات بارتفاع سعر الدولار  مقابل الدينار في المستقبل

الامر الذي يؤدي الى انتعاش المضاربة وبالتالي زيادة  الطلب على الدولار

واستنتج من ذلك

بأن تجاهل قوى السوق الغاشمة من قبل أصحاب القرار السياسي

وتردد قيادة البنك المركزي في التفاعل الايجابي معها،

لا يجدي نفعاً وإنما يزيد الطين بله.

وهنا اوكد على عدم جدوى حجب بيانات الطلب على الدولار،

لأن واقع السوق يفرض ارادته في جميع الاحوال.

هذا لا يعني بأني ادعوا الى ترك آليات السوق تعمل كيف ما تشاء

من دون إشراف وتصحيح من قبل مؤسسات الدولة المعنية،

كما يحلو للبعض باتهامي بالنيوليبرالية،

وإنما، على العكس من ذلك، 

أدعوالبنك المركزي الى اتخاذ إجراءات فعّالة

لتحقيق الاستقرار والتوازن للعملة الوطنية على المدى البعيد،

وفي مقدمتها رفض التدخلات السياسية والعودة إلى الشفافية

وبناء الثقة لدى القطاع الاسري والخاص،

واستعادة المصداقية التي فقدها خلال الاشهر الخمسة الماضية.

وينبغي التأكيد على ضرورة العودة لنشر بيانات الطلب الحقيقي على الدولار

من قبل القطاع الأسري والخاص، وبشكل يومي،

ليتسنى للباحثين والمحللين الاقتصاديين دراسة أنماط الطلب وتشخيص القوى المحركة له

بهدف استنباط استراتيجيات طويلة المدى لإدارة هذا الطلب وتطويعه للمتغيرات الاقتصادية الاخرى.

لقد اثبتت تجارب العراق قبل عام 2003 

وتجارب العديد من الاقتصادات الموجّه مركزياً

بأن الإجراءات القسرية لا تجدي نفعاً.

وبكل تأكيد لا يتحمل البنك المركزي لوحده مسؤولية الازمة الاخيرة، 

وإنما العديد من الوزارات التي فشلت في الاضطلاع بمهامها.

أخص بالذكر وزارة المالية

التي فشلت في ضبط الانفاق العام، وفي جباية الضرائب، وتحصيل الرسوم الجمركية،

بالإضافة الى وزارة التجارة

التي فشلت في ضبط الاستيرادات السلعية ومحاسبة المتلاعبين بالكميات والأسعار،

فضلاً عن وزارة التخطيط

التي قصّرت في توثيق إحصاءات التجارة الخارجية،

وأخيراً وليس اخراً الجهات المعنية بغسيل الاموال

وفشلها الذريع في التمييز

بين تهريب المال الحرام

وهروب رأس المال الوطني الحلال إلى خارج العراق كادخار خارجي،

بحثاً عن الأمان والاستقرار المالي.

إني على ثقة تامة بأن الكوادر الاقتصادية العراقية المهنية والمستقلة

قادرة على النجاح في انتهاج سياسة نقدية رشيدة وعلى تحقيق الاستقرار للعملة الوطنية،

كما نجحت دول أخرى في المنطقة العربية

مثل الأردن ولبنان التي تفتقر الى الموارد النفطية،

ناهيك عن دول الخليج النفطية التي تملك احتياطات هائلة من العملة الأجنبية.

لذا ينبغي على أصحاب القرار السياسي فسح المجال أمام التكنوقراط الوطني

للاضطلاع بهذه المهمة الحساسة والتي تحدد مستقبل التنمية الاقتصادية في العراق.

(*) خبير اقتصادي دولي والمنسق العام لشبكة الإقتصاديين العراقيين

(**) أشكر كل من الزملاء موفق حسن محمود ومصباح كمال على ملاحظاتهم القيمة

حقوق النشر محفوظة لشبكة الإقتصاديين العراقيين.

يسمح بالاقتباس واعادة النشر بشرط الاشارة الى المصدر.  25 حزيران 2015

الاراء الواردة في كل المواد المنشورة على موقع الشبكة

لاتعكس بالضرورة رأي هيئة التحرير،

وانما رأي كاتبها وهو الذي يتحمل المسؤولية العلمية والقانونية لوحده

http://iraqieconomists.net/ar/2015/06/25//

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق