الجمعة، 6 ديسمبر 2013

الاقتصاد مزرعة السياسة : حول دعوات توزيع الايرادات النفطية نقداً في العراق


مهدي البنـاي *

– نشر في 28/11/2013

الاقتصاد مزرعة السياسة : حول دعوات توزيع الايرادات النفطية نقداً في العراق

راجَتْ في الاونة الاخيرة دعوات لتوزيع واردات البترول او فائض ايراده على المواطنين نقداً ،

 وهي رغبة تدغدغ احلام المحرومين والمعوزين وربما شرائح اخرى من المجتمع ،

فجميل حقا ان نستلم نقدا وحبذا بالدولار .

وغالبا ما ياتي هذا الطرح من السياسيين والزعماء الحاسرين منهم والمتعممين

ممن لا خلفية اقتصادية لهم .. فقط لتسويق الاحلام والاماني الضالة ،

اقول أن يأتي مثل هكذا طرح من هؤلاء فالامر مفهوم ومدرك ،

ولكن الغريب ان تسمعه من بعض السياسيين ذوي الخلفية المالية والمصرفية !!!

أنْ يتحدث الزعيم السياسي بمواضيع اقتصادية امرٌ وارد ، فالاقتصاد مزرعة السياسة ،

ولكن لاحظ معي ان السمة المميزة لاغلب طروحات السياسيين وشيوخ الدين الاقتصادية

هي تناولهم نظريات التوزيع بدون الالتفات الى الجانب الاهم وهو انتاج الثروة (خلق القيمة المضافة) .

ويبدو انهم يستسهلون الحديث عن التوزيع بوصفه يعتمد مسائل وافكار وشعارات ايديولوجية

 اما عملية الاستثمار والانتاج فهي ذات جانب معرفي ومهني بحت ،

او ان فشلهم في طرح مشاريع ناجحة لانتاج الثروة ،

وعقم تفكيرهم عن انعاش الاقتصاد العراقي طيلة العشر سنوات الماضية ،

يدفعهم الى الخوض في الموضوع الاسهل نسبيا وهو التوزيع !

ويمكن ان تكون لهذه الطريقة في التوزيع مبررات ظاهرية لشرائح وطبقات

لم ينصفها نظام استخدام وتوزيع الايرادات الحالي ،

اضافة الى انعدام الثقة بتصرفات الدولة الاقتصادية وتدني الخدمات والفساد المستشري

وظهور طبقات مُستَغِلة من سياسيين ومقاولين مرتبطين بهم

والموظفين المرتشين ينعمون بما حرمت منه طبقات عريضة.

 لذا يرون ان الحل بأن توزع الايرادات نقدا وحبذا قبل الانتخابات.

   احسب انه يتفق معي الكثير من الخبراء الاقتصاديين

ان اغلب القرارات الاقتصادية السليمة هي قرارات غير شعبية ،

 ومرد ذلك الى انها لا تعطي ثمارها بالاجل القصير لانها تتعامل مع (انتاج الثروة) وليس مع توزيعها .

وعملية خلق الثروة 

عملية معرفية خالصة تحتاج الى عناصر انتاج معينة خاضعة لخاصية الندرة

كما تستلزم ادارة سليمة ومتخصصة، وبحاجة ايضا لمرورها في الدورة الطبيعية للاقتصاد

حتى تأخذ فعل الاستدامة ،

اما عملية التوزيع 

تعتمد على ايديولوجية النظام الاقتصادي السائد.

اعود الى اسلوب توزيع العائدات نقدا الذي يدغدغ به السياسيون احلام الناس ..

اذا كان هذا النظام قد عمل به (جزئيا) في بعض البلدان ، فالامر يختلف في العراق.

بدأً علينا التذكر 

ان اي توزيع او انفاق لا يؤدي الى دوران في النظام الاقتصادي بمديات معينة

بمعنى الاستدامة يعتبر اجراءاً خاطئاً بل مسرفاً .

بمعنى ان الدول ذات الاقتصادات الرصينة

تميل الى تغليب الجانب الاستثماري في موازناتها

لان الاستثمار يعني خلق القيمة المضافة للاقتصاد 

وهذا يعني (منتجات اكثر ، فرص عمل اكثر ….الخ).

وحتى في الجانب التشغيلي للموازنة

 الذي يذهب مباشرة كرواتب واجور ومستلزمات ، 

فهو محرك للطلب على المنتجات والخدمات

وهو امر ضروري لادارة الدولة ومرغوب ضمن حدود محسوبة

تضمن عدم التسبب بمعدلات تضخمية تفقد النقد قيمته الحقيقية.

(( في الوقت الحاضر،

 يستأثر العاملون بالدولة باغلب الانفاق من موارد النفط

وهناك بطالة مقنعة هائلة في جهاز الدولة

هي الاخرى مصدر للهدر والفساد والامتيازات المالية والعينية والتقاعدية

دون عمل مقابل من قبل الكثيرين هناك.

كندا

ذات ال 3 ملايين كيلومتر مربع وعدد سكان يوازي العراق

كانت تدار بحوالي 650000 موظف عام 2006 وبكفاءة عالية مقابل 3 ملايين موظف

(عدا الجيش والشرطة) في العراق لحوالي 450000 كيلومتر مربع وبكفاءة متدهورة!! ))**

في هذه الدول تطرح المؤسسات المالية والاستثمارية فرص ووسائل استثمار متعددة

ملائمة لمختلف طبقات المجتمع لتشجيعها على ادخار واستثمار مواردها النقدية بكفاءة ،

محققة مردودات لا بأس بها ،

 فاسواقها المالية تعج بالاسهم والسندات والصناديق والمحافظ الاستثمارية الاخرى

التي تتيح للموظف والمتقاعد ان يستثمر في ادوات الاستثمار المتاحة بانواع وفئات متنوعة ،

وبالتالي ضمان عودة السيولة الى دورة الاقتصاد بنسبة كبيرة .

هذا بالاضافة الى ان مواطني تلك الدول يتمتعون بثقافة وثقة مصرفية

تجعلهم لا يميلون الى الاحتفاظ بالنقد في منازلهم،

فالرواتب والاجور تصرف عن طريق البنوك اصلا ،

ناهيك عن توفر وانسيابية المنافذ المصرفية وطرق دفع الفواتير والمشتريات الالكترونية.

لابد من التأكيد 

على ان كمية الاموال المجمدة لدى الافراد والشركات خارج النظام المصرفي

تعتبر معطلة عن الاسهام في الانتاج ..

فعندما تكون هذه الاموال في المصارف

 تجبر هذه الاخيرة على استثمارها (عن طريق الاقراض) وبالتالي دفع عملية الانتاج.

ملخص القول

انه اذا لم تتوفر لديك ادوات استثمارية في متناول جميع فئات المجتمع وخاصة ذوي الدخل المحدود ،

 كالاسواق المالية الكفوءة التي تطرح ادوات استثمار كالاسهم والسندات وشهادات الايداع وغيرها ،

 وبغياب الثقافة الاستثمارية للافراد ..

تعتبر عملية التوزيع النقدي 

عبثية وذات اثر مباشر مفرح وخادع،

ولكن ذات اثر تضخمي على المدى المتوسط والطويل.

في بيئة خالية من وسائل الاستثمار الميسرة وفي ظل غياب ثقافة الادخار

وانعدام الثقة في التعامل المصرفي ، وبدائية العمل المصرفي والاستثماري ،

 سيفرح الفرد باستلامه النقد وسيميل فوراً الى استهلاكه كله او معظمه في تلبية حاجاته الاساسية

(عموما لازال الميل الحدي للاستهلاك الفردي في العراق عالي جدا)

وهي عبارة عن سلع وخدمات يعجز القطاع الصناعي والخدمي في العراق عن تلبيتها

وسيتم اللجوء الى الاستيراد الذي بدوره سيزيد من الطلب على العملة الاجنبية

وهذا بدوره سيسبب ضغطا على قيمة العملة الوطنية التي ستميل الى الانخفاض شيئاً فشيئاً

مما يسبب تضخما هائلا …

هذا بدوره سيرفع اسعار المنتجات المستوردة 

وبالتالي خفض القيمة الحقيقية للنقود الموزعة.

; واذا كان القول

ان التوزيع النقدي سيؤدي الى زيادة الطلب على السلع والخدمات

ومن ثم تشجيع المستثمرين الصناعيين على انشاء مشاريع جديدة لتلبية الطلب

 ومن ثم تحريك دورة اقتصادية 

فهو قول مشكوك بصحته (حاليا) 

بسبب:
- سياسة الابواب المفتوحة للاستيراد.
- عدم حماية المنتج المحلي ، بل عدم حماية المستهلك من استيراد سلع رديئة.
- محدودية فرص التمويل.
- مشاكل الارض والطاقة.
- انصراف الافراد عن العمل 

او على الاقل صعوبة جذب الافراد للعمل في النشاط الخاص

لان هناك دخل مجاني … (رفع كلفة العمل).

ثم ما الضامن على عدالة التوزيع في الظروف الحالية،

فالبلد يفتقر الى تعداد سكاني والى البطاقة المدنية الموحدة

 وبالتالي تصبح عملية التوزيع باعتماد بيانات البطاقة التموينية عملية زائفة

ولا تحقق العدالة الاجتماعية المنشودة ، وان كانت هذه اسبابا اجرائية.

فاذا كان الامر كذلك فاي اقتصادي رصين يوصي بالتوزيع النقدي.

حتى القول

بأن هذه العملية هي بمثابة ضخ مالي يسهم بانعاش الاقتصاد (Injection)

 هو قول مردود ،

لانه عادة ما تتم عملية الانعاش ضمن مسارات وطرق محددة ومباشرة

 ( كخفض معدل الفائدة ،

 ضمان القروض، تشجيع الاقراض للمشاريع مباشرة ،

قيام الدولة بالمشاريع العملاقة الاستراتيجية … وغيرها ) 

لضمان نتائج مؤكدة ومحسوبة .

مجمل القول ،

 ان هذه الطريقة بالتوزيع اذا ما تمت (في الظروف الحالية) ،

 فلا تعدو عن كونها عملية خلق طلب على منتجات دول الجوار

 تتحمل الدولة تكاليفه

عبر ضرورة توفير العملة الاجنبية ورفع معدلات التضخم والضغط على العملة الوطنية.

; ارى ان هناك ثلاثة شروط اساسية (وليست كل الشروط )

يجب اخذها بنظر الاعتبار

اذا ما تقرر توزيع العائدات كلا او جزءا بصورة نقدية:

1- ضمان تحقيق استدامة التنمية من هذا الاجراء ،

بمعنى اسهامه المؤكد في خلق القيمة المضافة وليس خلق اعباء اضافية.

2- ; ضمان عدالة التوزيع (ضمان فائدة الطبقات المحرومة وذوي الدخل المحدود)

والاجابة عن عدد من الاسئلة ،

كم نوزع ؟ 

ولمن نوزع ، 

وكيف؟

3- الاخذ بنظر الاعتبار مصلحة الاجيال القادمة ،

 فالنفط بوصفه ثروة ناضبة

 ليس من حق هذا الجيل فقط.

ان التقليدية في التفكير الاقتصادي

يمكن القبول بها في الاوضاع التقليدية الطبيعية ،

 اما الظروف الاستثنائية فتتطلب

 تفكيرا مبدعا واساليبا مبتكرةً.

هناك طرق اكثر نجاعة تشبه التوزيع النقدي ،

 ولكنها تحقق فوائد مؤكدة بل متنامية للافراد

في نفس الوقت تخلق قيما مضافةً للاقتصاد ، 

سنتناولها لاحقا.

*) ;باحث اقتصادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق