الأربعاء، 18 يوليو 2012

الروبية الهندية في مهب الريح


أ.د. محمد ابراهيم السقا




أ.د. محمد ابراهيم السقا
نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الثلاثاء 29/5/2012


الهند هي أحد أهم الاقتصادات الواعدة في العالم اليوم، وتتزايد التوقعات بأن يلعب الاقتصاد الهندي دورا رائدا على المستوى الدولي، البعض منها يتوقع بأن تصبح الهند الاقتصاد الأول في العالم بحلول العام في 2050،


ومن وقت لآخر تجري المؤسسات الاقتصادية والمالية في العالم مقارنة بين الأوضاع الاقتصادية في الهند (معبرا عنها بالفيل الهندي) مقارنة بالصين (معبرا عنها بالتنين الصيني)، أيهما سوف تكون له الغلبة في المستقبل، باعتبار أن قيادة العالم من الناحية الاقتصادية كانت دائما بين هاتين الدولتين قبل صعود الغرب في العصر الحديث.


هذا العام بدأت الشكوك تتزايد حول مدى صحة واعتمادية مثل هذه التوقعات للفيل الهندي مع استمرار تعرض العملة الهندية لضغوط الانخفاض المستمر في قيمتها، بحيث أصبحت الروبية الهندية تعد الآن اضعف العملات بين عملات الدول الناشئة في آسيا.


فالعملات الآسيوية بشكل عام تتراجع خلال هذه السنة، لكن الأداء الهندي كان الأسوأ بين مجموعة الدول الناشئة في آسيا، بل إن بعض المصادر تصنف تطورات الروبية على أنها تمثل رابع أسوأ أداء للعملات على مستوى العالم هذا العام بعد الراند الجنوب إفريقي والليرة التركية والشلن الكيني.


ففي يناير 2011 كان معدل صرف الروبية إلى الدولار الأمريكي 45.5 روبية للدولار تقريبا، وقد استمر تراجع معدل صرف الروبية على نحو واضح إلى أدنى مستوياته يوم الأربعاء 23/5/2012 حيث بلغ معدل صرف الدولار 56.0052 روبية،


وقد شهدت الأيام القليلة الماضية تراجعا محدودا لمعدل صرف الدولار بالنسبة للروبية، ففي اليوم الأحد 27/5/2012 بلغ معدل صرف الدولار 55.4 روبية،


ويعني ذلك أن الروبية الهندية خلال العام ونصف الماضي تراجعت بنسبة 24% تقريبا، وهو بكل المقاييس من أعلى معدلات التراجع في العالم.


التوقعات المستقبلية حول مسار الروبية الهندية أيضا متشائمة بسبب طبيعة التوقعات السائدة حاليا حول الأداء الاقتصادي للهند في المستقبل، ولهذا التشاؤم أسباب متعددة، أهمها العجز في ميزان المدفوعات الهندي،



 فمن الناحية النظرية تعد العملة الوطنية مرآة لميزان مدفوعات الدولة،


وينقسم ميزان المدفوعات إلى ميزان العمليات الجارية وميزان العمليات الرأسمالية،
ميزان العمليات الجارية يشمل الميزان التجاري والتي تسجل فيه قيمة صادرات وواردات الدولة من السلع، وميزان الخدمات، ويشمل صادرات وواردات الدولة من الخدمات مثل النقل والتأمين.. الخ، بالإضافة إلى صافي التحويلات للدولة.
 أما ميزان العمليات الرأسمالية فتسجل فيه تحركات رؤوس الأموال من والى الدولة،


ويعد الميزان التجاري أهم هذه الحسابات في ميزان المدفوعات للدول الناشئة،
حيث تلعب تنافسية هذه الدول دورا هاما في الانتشار الجغرافي لصادراتها من السلع، والتي تستند بصفة أساسية إلى انخفاض تكاليف الإنتاج مقارنة بمنافسيها من باقي دول العالم،
وحيث أن استراتيجيات النمو في الدول الناشئة، مثل الهند، قائمة على التوجه أساسا نحو الخارج،
 فإن الميزان التجاري يلعب دورا هاما في نمو هذه الدول، ولذلك فإن قيمة عملات الدول الناشئة ترتبط أساسا بالتطورات في هذا الميزان.


الوضع بالنسبة للهند مختلف عن باقي الدول الناشئة حاليا،
فعلى مدى الفترة من 2000 -2012 لم تحقق الهند أي فائض في ميزانها التجاري، وإنما على العكس استمرت تحقق عجزا متزايدا بشكل عام،
بل إن الفجوة في ميزان مدفوعات الهند تتسع نتيجة لارتفاع وارداتها من السلع التجارية العالمية الرئيسة بصفة خاصة النفط والذهب على نحو مثير للقلق، حيث تميل قيمة واردات هاتين السلعتين إلى الارتفاع المتواصل، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة فاتورة واردات الهند واتساع عجزها التجاري مع العالم الخارجي،


ومن الناحية النظرية يفترض أن انخفاض قيمة الروبية سوف يساعد النمو من جانب الصادرات، لكن الأثر الصافي لتخفيض قيمة العملة على التجارة الخارجية للهند كان محدودا بسبب تركيبة الواردات.


فالهند تستورد اكثر من 70% من احتياجاتها النفطية من الخارج، وهي تقع ضمن قائمة الدول الجوعى للنفط، ووفقا لآخر التقديرات فإن ورادات الهند من النفط والذهب تمثل حوالي 32% من واردات الهند،


وعندما تعجز الصادرات عن مواكبة النمو في الواردات فإن عجز الميزان الجاري لا بد وان ينعكس على قيمة العملة، وهو ما يحدث حاليا في الهند.


وفقا لآخر البيانات المتاحة فإن العجز الحالي في الحساب الجاري في الربع الثالث من 2012 يعد الأعلى منذ 17 عاما.
مثل هذه التطورات تؤدي إلى زيادة الطلب على العملات الأجنبية، بصفة خاصة الدولار، في سوق الصرف الهندي بشكل يتجاوز بكثير الكميات المعرضة منها، وهو ما يخلق عجزا في السوق يؤدي إلى تزايد الضغوط على قيمة الروبية نحو التراجع.


أدى تراجع الروبية إلى فقدان الثقة بها، وهو ما ترتب عليه حدوث عمليات خروج لرؤوس الأموال من الهند، في الوقت الذي تراجعت فيه الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى الهند، وهو ما أدى إلى ضغوط إضافية على العملة،


وفي اقتصاد ناشئ مثل الهند تلعب الاستثمارات الأجنبية دورا حاسما في النمو، لأن استراتيجية النمو القائمة على التصدير تعتمد أساسا على الشركات الأجنبية التي تقوم بالتصنيع ومن ثم التصدير من الهند للاستفادة من مزايا التصنيع هناك والتي تتمثل بصفة خاصة في رخص أجور القوة العاملة والمزايا الضريبية.


من ناحية أخرى فإن الضغوط على الروبية جعلت البنك المركزي الهندي Reserve Bank of India يضطر إلى التدخل في سوق النقد الأجنبي للدفاع عن الروبية ضد ضغوط الهبوط وهو ما أدى إلى تراجع الاحتياطيات النقدية للبنك المركزي،


فوفقا لبيانات البنك المركزي الهندي فإن إجمالي الأصول الاحتياطية الدولارية قد تراجع من 281.6 مليار دولارا في أكتوبر  2011، إلى 257.9 مليار دولارا في 12 مايو 2012، أي بنسبة 9% تقريبا.


في ظل هذه الضغوط تتزايد الوقعات حاليا باحتمال تعرض الهند لحركات خروج كبيرة لرؤوس الأموال إذا لم تتوقف الروبية عن التراجع ، خصوصا بعد أن قامت مؤسسة ستاندرد أند بور بتخفيض التصنيف الائتماني للهند الشهر الماضي إلى BBB-، مع نظرة مستقبلية سلبية نتيجة تراجع النمو والأوضاع السياسية التي تواجهها الهند.


الهند تواجه أيضا مشكلة هيكلية في ماليتها العامة،
كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي بلغ عجز الحكومة المركزية وحكومات الولايات الهندية حوالي 7% في المتوسط خلال الفترة من 2005 حتى 2011، حيث تتزايد الضغوط نحو تقديم المزيد من الدعم الذي تقدمه الحكومة للأسمدة وغاز الطهي والبترول والديزل، في الوقت الذي تتصاعد فيه الدعوات لتخفيض هذا الدعم إلى مستويات تستطيع الدولة تحملها.


غير أنه في ظل وجود كتلة سكانية ضخمة مثل الكتلة الهندية بمستويات دخول منخفضة، فإن عملية السيطرة على العجز المالي تعد مشكلة حقيقية في الهند حاليا، سواء على مستوى الحكومة المركزية أو على مستوى الولايات.


بالطبع يترتب على ارتفاع نسبة العجز المالي إلى الناتج المحلي تزايد الضغوط على قيمة الروبية.


الاقتصاد الهندي يواجه أيضا تراجعا في معدلات النمو وارتفاعا في معدلات التضخم في أعقاب الأزمة المالية العالمية،
والبنك المركزي الهندي يواجه معضلة حاليا تتمثل في ضرورة تخفيض معدلات الفائدة لتشجيع الطلب الكلي ولدعم النمو،
ولكن خفض معدلات الفائدة سوف يترتب عليه تدهور قيمة العملة بصورة أكبر، ومن ثم تغذية التضخم،


وتشير البيانات المتاحة إلى أنه في عام 2011 بلغ معدل النمو في الهند 8.5%، هذا العام من المتوقع تراجع معدل النمو إلى حوالي 7%، وهو ما دعا الحكومة إلى محاولة البحث عن مزايا أخرى وقطاعات أخرى يتم فتحها للاستثمار الأجنبي المباشر مثل قطاع التجزئة لدفع معدلات النمو.


تراجع قيمة الروبية يضيف أيضا المزيد من الضغوط التضخمية وارتفاع الأسعار
سواء الناجمة عن تفاعلات قوى العرض والطلب المحلي، او التضخم المستورد من الخارج، بصفة خاصة مع ارتفاع تكلفة الوقود المستورد، على الرغم من الدعم الكبير الذي تقدمه الدولة للوقود والأسمدة.


ففي عام2009 بلغ معدل التضخم أقصى مستوياته عند نسبة 15%، انخفضت إلى حوالي 10% عام 2010، وفي العام 2011 استمر تراجع معدل التضخم نحو التراجع إلى 6.5%، غير أن أخر البيانات المتاحة في أبريل 2012 تشير إلى ارتفاع التضخم إلى مستويات أكبر مما هو متوقع إلى 7.5%.


الدلائل تشير إلى تدخل البنك المركزي الهندي من وقت لآخر في سوق النقد الأجنبي، ويبدو أن البنك المركزي عازم على الحد من تراجع الروبية بصورة أكبر.


فكما سبقت الإشارة شهدت الأيام القليلة الماضية ارتفاعا طفيفا في قيمة الليرة نتيجة عمليات التدخل، لكن من المؤكد أن هذه العمليات مكلفة وسوف يترتب عليها تراجعا واضحا في احتياطيات البنك المركزي من العملات الأجنبية الأمر الذي يهز الثقة في العملة.


باختصار الروبية الهندية تقف الآن في مهب الريح حيث تعمل تشكيلة متسعة من العوامل في الضغط عليها نحو التراجع أهمها عجز الميزان التجاري وزيادة العجز المالي وتراجع معدلات النمو وانخفاض الاحتياطيات من العملات الأجنبية وارتفاع معدلات التضخم.




http://economyofkuwait.blogspot.com/2012/05/blog-post_30.html

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق