الأحد، 1 يوليو 2012

عن العلمانية (4)

عن العلمانية (4)
 


 











 

مجتمع (ما بعد العلمانية):
تبني الفيلسوف الألماني المعاصر يورغن هابرماس(1929م ـ ) مصطلح (مجتمع ما بعد العلمانية)
وطالب بدور عمومي للدين في داخل المجتمعات العلمانية الغربية. 
و حسب تصور هابرماس فإن هذا الدور العمومي للدين، لا يمكن أن يتم إلا عبر منح الدين مكانة جديدة، يتمكن من خلالها من لعب دور جديد.
والسبب الذي دعا هابرماس إلى تبني مفهوم مجتمعات ما بعد العلمانية، إنما يرجع إلى ما كان سائداً من تهميش وإقصاء للدين في العلمانية في مجال التداول العام، وهو الأمر الذي أقرأه أنا داخل سياق حوار عقلاني نقدي رفيع، وإدارة مناقشة لم تكتمل وتتبلور نتائجها بعد، وهو الأمر الذي يصب أولاً وأخيراً في اتجاه تطوير مفهوم العلمانية نفسه. 
على أساس أن هناك توتر صحي ما بين الدين والعلمانية داخل المجتمعات الغربية التي أكثر ما يميزها أنها مجتمعات حرة، على عكس الوضعية اللا صحية التي يقف فيها كل من العلماني والديني في مقابلة ومحاربة بعضهما في مجتمعاتنا العربية الإسلامية.
وإذا أردنا صياغة المشكلة التى يحاول هابرماس معالجتها من خلال مفهومه ل( مجتمع ما بعد العلمانية)، فيمكن لنا تلخيصها في صيغة التساؤل التالي: 
ما هو مدى سلبية التأثير للعلمانية (القائمة على فصل الدين عن الدولة) على الدور الذي يمكن أن تلعبه الجماعات الدينية في المجتمع المدني والمجال العام السياسي، وفوق كل ذلك في صياغة الرأي والإرادة السياسية للمواطنين أنفسهم؟ 
بمعنى أكثر وضوحاً: 
الفرضية الأساسية التي يتبناها هابرماس في مفهوم (مجتمع ما بعد العلمانية) هي تلك الفرضية التي تحاول تجاوز القيود والحصار الذي ضربته العلمانية للدور السياسي الذي يمكن أن يلعبه الدين في المجال العام. 
وبذلك فهي فرضية تغذي وتدعم الانتقال من مجتمعات العلمانية التي قيدت الدين بحدود دائرة الحياة الشخصية، ومنعته من أي تأثير في المجال السياسي، إلى مجتمعات ما بعد العلمانية التي تمنح الدين دور جديد يمكن أن يؤثر من خلاله على المجال العام.
ويستشهد هابرماس بالبعث الديني في أمريكا، نقتبس هنا قول هابرماس في هذه المسألة، حيث يقول: 
" ما هو أكثر إثارة للدهشة هو البعث السياسي للدين في قلب الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تتجلى دينامية التحديث بأكثر طرقها نجاحاً. 
وبالتأكيد، نحن ندرك في أوروبا، ومنذ أيام الثورة الفرنسية، قوة الشكل الديني من التقليدية والتي كانت ترى نفسها كثورة مضادة. 
على أية حال، إن استدعاء الدين كقوة للتقاليد يكشف ضمنياً عن شك مقلق بشأن إمكان انهيار صحة ما اعتبرناه تقاليد. 
وفي المقابل، فإن الصحوة السياسية المستمرة لوعي ديني قوي في الولايات المتحدة الأمريكية لم تتأثر وبشكل واضح بهذه الشكوك".

 
(الاستخدام العمومي للعقل)
وفي المقابل، يتبنى جون رولز موقفاً مغايراً للموقف الذي أتخذه هابرماس 
ويشدد على ضرورة بقاء الطابع العلماني للدولة: 
فهو يرى أن الدولة العلمانية تكفل الحرية الدستورية للتدين وهي بذلك تستجيب لتحديات التعددية الدينية، وتضمن في الوقت ذاته الحدّ من " النزاع على مستوى التفاعل الاجتماعي للمواطنين، بينما على المستوى المعرفي يمكن للصراعات العميقة الجذور أن تستمر في الوجود بين المعتقدات ذات الصلة وجودياً، للمؤمنين، وللمؤمنين بمعتقدات أخرى، ولغير المؤمنين. 
إن الأطراف المختلفة نفسها يجب أن تصل إلى اتفاق على الحدود المتصارع عليها دائماً بين الحرية الإيجابية لممارسة دين ما للفرد نفسه والحرية السلبية لأن تظل سالماً من الممارسات الدينية للآخرين. 
وإذا كان مبدأ التسامح أن تكون فوق أي نوع من الشعور بالقهر فإننا يجب أن نجد أسباباً ملزمة لتعريف ما يمكن أن نتسامح بشأنه وما لايمكن، أسباب يمكن لجميع الأطراف قبولها بالتساوي".
يركز رولز على (الاستخدام العمومي للعقل)، فالدولة العلمانية تنظر لجميع مواطنيها على قدم المساواة كأعضاء متساويين وأحرار في مجتمعهم السياسي. 
وهو الأمر الذي يخلق نوعاً من التضامن المدني، طالما كانت الحجة العقلانية هي الأساس والفيصل سواء تمثل ذلك في الوصول إلى إتفاق فيما هو عام ومشترك بين الجميع، أو تمثل في حل المسائل السياسية الخلافية. 
ويتم ذلك كله عبر الحجج العقلانية التي يمكن أن تقبل أو ترفض. 
في ظل هذا السياق، يطرح جون رولز مفهوم (الاستخدام العمومي للعقل) لمواطنين متساويين وأحرار في ظل دولة ديمقراطية ذات طابع علماني. 
ومفهوم الاستخدام العمومي للعقل يعني ببساطة أن المواطنين المشاركين في الشأن العام، لابد لهم من تبرير مقولاتهم السياسية على أسس يمكن تعقلها من جانب الكل، سواء أكانوا مواطنين دينيين أومواطنين غير دينيين. وبالتالي تصبح الحجة التي لا يمكن تبريرها تبريراً عقلانياً هي حجة غير مشروعة للتداول العام، بسبب أنها تعكس حقيقة أن طرفاً يحاول فرض تدينه وقناعته اللا عقلانية على الآخرين. 
على ذلك يلزم مبدأ (الاستخدام العمومي للعقل) السياسيين والموظفين داخل المؤسسات السياسية بصياغة وتبرير القوانين، وقواعد القضاء، والقرارات والمقاييس فقط باللغة التي تكون متاحة بالتساوي لكل المواطنين.

(ما بعد العلمانية  وليس  ما قبل العلمانية)
لكن الملاحظ أن هناك إساءة فهم لمصطلح (مجتمع ما بعد العلمانية)، فمن الخطأ الإعتقاد بأن هابرماس يدعو إلى عودة إلى مجتمع ما قبل العلمانية، 
فالجماعات الدينية والقناعات الدينية في المجتمعات الغربية المعلمنة لا تعادي ما أنتجته الحداثة عندهم من قيم، فالديمقراطية والحريات الليبرالية وحقوق الإنسان تنظر إليها القناعة الدينية الغربية بوصفها من الثوابت والمكتسبات التي يجب الحفاظ عليها. 
وهو الأمر الذي يؤكده هابرماس نفسه بقوله: 
" في الدول الدستورية جيدة التأسيس فإن الكنائس والمجتمعات الدينية بشكل عام تؤدي وظائف ليست قليلة الأهمية لاستقرار وتقدم ثقافة سياسية ليبرالية. 
وهذا صحيح صحة خاصة بالنسبة لشكل الدين المدني الذي نشأ في المجتمع الأمريكي".

وهو السياق الذي لابد أن نفهم من خلاله مفهوم مجتمع ما بعد العلمانية عند هابرماس.
 
 (فيما يخصنا الوضعية مغايرة تماماً)
في المقابل، وفيما يخصنا، نجد أن الوضعية مغايرة تماماً: 
فجماعات الإسلام السياسي ـ وخصوصاً الجماعات الوهابية والسلفية ـ تُعادي الديمقراطية وتناهض كل ما من شأنه أن يجعل المجتمعات العربية الإسلامية تصطلح مع الحداثة وتقبل قيمها الكونية. 
وفي الأدبيات السياسية لهذه الجماعات، تتردد كثيراً من المقولات التي ترى في الديمقراطية خطراً على الدين الإسلامي. 
وهناك تيارات معاصرة لها وزنها ترى أن الديمقراطية بمعناها الحديث: 
وهو حكم الشعب للشعب بالشعب، تتناقض مع جوهر الإسلام، ويرون من وجهة نظرهم بأن " الديمقراطية والمجالس النيابية هي من دين الكفار وأهوائهم، والرضا بها دخول في دينهم وإتباع لملتهم وخروج من ملة الإسلام" 
 بل ويذهبون إلى أبعد من ذلك بإصدارهم لحكم قاطع جازم تلخصه لنا أحد بيانات تنظيم قاعدة الجهاد بالكلمات التالية: 
" إننا نقول جازمين غير مترددين ولا شاكين في أن الديمقراطية حكمها في دين الله تعالى هو الكفر البواح الذي لا يخفى إلا على كل أعمى البصر والبصيرة. وأن من اعتقدها أو دعى إليها أو أقرها ورضيها أو حسنّها فهو كافر مرتد عن دينه وإن تسمى بأسماء المسلمين. 
ويعنّون حزب التحرير الإسلامي إحدى منشوراته بالعنوان التالي (الديمقراطية نظام كفر يُحرم أخذها أو تطبيقها أو الدعوة إليها) ويعبر عن وجهة نظره في افتتاحية المنشور السابق بالقول: 
" الديمقراطية التي سوّقها الغرب الكافر إلى بلاد المسلمين هي نظام كفر، لا علاقة لها بالإسلام لا من قريب ولا من بعيد. وهي تتناقض مع أحكام الإسلام تناقضاً كلياً في الكليات وفي الجزئيات، وفي المصدر الذي جاءت منه، والعقيدة التي انبثقت عنها، والأساس الذي قامت عليه، وفي الأفكار والأنظمة التي أتت بها. لذلك فإنه يُحرم على المسلمين أخذها، أو تطبيقها، أو الدعوة لها تحريماً جازماً".
وما أردت أن أخلص إليه من خلال الفقرة السابقة، إنما يتمثل في التالي: 
إذا كان هابرماس يدعو المجتمعات الغربية إلى قبول دور جديد للدين في الدولة وفي المجال العام، فإننا لا زلنا داخل إطار ما أسميه (مجتمعات ما قبل الحداثة) .
فالأصوليات الدينية التي نواجهها في عالمنا العربي الإسلامي هي غير تلك الموجودة في المجتمعات الغربية ( التي استجابت لتحديات الحداثة)، فهي عندنا ترتبط بالصراعات الدينية والتشدد والتطرف وأصبح بعضها مفرخاً للارهاب بكافة صوره وأشكاله، والبعض الأخر منها يستخدم الدين ويوظفه من أجل غايات سياسية.

يتبع... 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق