الأحد، 4 سبتمبر 2011

الاقتصاد الريعى

 هذه المقالات توضح الاقتصاد الريعي والعقلية الريعيه ودورهما في الفسادالسياسي وفشل الديمقراطيه في الواقع العربي واخيرا في التخلف الاقتصادي العربي المعاش.



رؤية أولية فى أسباب التخلف العربى وآفاق تجاوزه -
الاقتصاد الريعى أساس التخلف

فتحى سيد فرج
fathifarag_2000@yahoo.com
قدمنا فى المقالة السابقة عرضا موجزا للمؤشرات الأساسية التى توضح مقدار التخلف العربى بالرغم من امتلاكه لمجموعة من العوامل التى من المفترض أن تكون دافعا للنمو والتقدم الاقتصادى والحضارى ، كما قدمنا بعض الآراء والاطروحات التى حاولت تفسير هذه الحالة الفريدة من التخلف ، ورغم أن هذه الآراء والاطروحات قد تكون لمست واحدا أو أكثر من أسباب هذه الظاهرة المحيرة ، إلا أنها ركزت تحليلها لعوامل الازدهار وتداعيات الانهيار الحضارى العربى فى مراحل وعصور سابقة ، ولم تقدم تفسيرا مقنعا عن استمرار حالة التخلف ،ربما تكون ظاهرة الاستعمار التى عملت على استنزاف بعض البلدان العربية أحد الأسباب وأهمها ،

ولكن يبقى أن هناك عديد من المناطق والبلدان فى أسيا وأفريقيا قد تعرضت لاستنزاف أكثر ضراوة كالهند مثلا ومع ذلك فأنها تجاوزت هذه المرحلة وتحولت إلى مجتمع اقتصادى منتج ومشارك فى حركة التقدم العالمى التى تشهدها مناطق عديدة كانت أكثر تخلفا من العالم العربى ولا تمتلك مثل ثرواته ، تاركة العالم العربى وحده يرزح فى تخلفه المستمر.
واعتقد أن الوصول لتفسير استمرار حالة التخلف العربى مهمة تحتاج لبذل جهود كبيرة ، حيث أن الوصول لمثل هذا التفسير قد يكون سبيلا للخروج من هذا التخلف ، فالتشخيص السليم للعلة يعتبر نصف الوصول للعلاج ،

من هنا فأنني أرى أن نمط الإنتاج الأساسى السائد فى المنطقة العربية منذ قرون عديدة والذى ما يزال سائدا حتى الآن ، وهو نمط الاقتصاد الريعى هو العامل الرئيسى لاستمرار حالة التخلف فى العالم العربى .
أن نمط الإنتاج السائد فى أى مجتمع والمستوى التكنولوجى له ، من أهم المحددات للبنى والتكوينات الاجتماعية التى تولد توجهات الأفراد والجماعات وتحدد أفعالهم وخصائص حضارتهم ،

وليس من المبالغة القول أن العمل الذى يقضى فيه المرء أيامه المتعددة يوما وراء يوم ، لابد وأن يؤثر ابلغ الأثر فى تشكيل عقـليته ،
وأن الموقع الذى يحتله المرء فى العملية الإنتاجية يحدد نظرته إلى كافة الأشياء وموقعه من كل الأمور ، وكيفية تصرفه وسلوكه العام .
فنمط الإنتاج بمعنى اسلوب الحصول على الدخل القومى ، وكيفية توزيعه ، هى التى تحدد مستويات المعيشة ومعدلات التقدم فى هذا المجتمع ،

فالدخل المتحقق من خلال العمل الاجتماعى المنتج وما يترتب عليه من توزيع فى صورة مرتبات وأجور وأرباح وفوائد من خلال نشاط استثمارى يقوم على بناء أصول ومشروعات إنتاجية وخدمات متقدمة دافعة للقدرات التنافسية ، هى التى تتضمن الأفكار المبدعة والتقنيات المبتكرة .
وهو نمط الحياة المحفز للنمو الاقتصادى وبناء مجتمع المعرفة ، والدافع لتطوير العلوم والنظريات العلمية ، والعمل على تطبيقها بما يحقق أعلى مستويات التقدم العلمى والمعرفى ، وفتح آفاق الإبداع فى شتى المجالات ، وزيادة الكفاءة فى الارتقاء بنوعية الحياة بصفة عامة . كما أن هذا النمط الاقتصادى يؤدى إلى تشكيل كيانات وطبقات اجتماعية تحرص على تحقيق مصالحها من خلال خوض صراعات اجتماعية وسياسية بأساليب عادة ما تكون ديمقراطية لتحسين فرص حصولها على أفضل عائد من الاستثمار المنتج .
أما نمط الاقتصاد الريعى والذى يعنى الاستغلال البدائى للموارد الطبيعية ، أو الحصول على ثروات تكتسب من خلال الجاه أو السلطة ، دون الوصول إلى العمل الاجتماعى المنتج ، فأنها على العكس من ذلك تتوجه إلى استثمارات عقيمة كامتلاك العقارات وأساليب الاستهلاك الترفى والتفاخرى التى لا أثر لها فى بناء القدرات الإنتاجية أو تحقيق نمو اقتصادى حقيقى .
ويفرق سمير أمين بين الريع والفائدة والربح ،

فالريع ينبع من السيطرة الحصرية على وسائل طبيعية ليست بذاتها حصيلة العمل الاجتماعى ، ويضرب مثلا لذلك فى المجتمع الإقطاعى الذى يتحقق فيه الريع من خلال ملكية الإقطاعى للأرض الزراعية وتشغيل الفلاح القن وربطه بهذه الأرض ،
أما الفائدة خاصة فى المجتمعات ما قبل الرأسمالية فتتحقق عن طريق التجارة بعيدة المدى ، ويكون مصدرها احتكار التجارة بين مجتمعين يجهلان قيمة ما يتبادلانه ولا يعرف كل منهما كلفة إنتاجها الاجتماعية أو أثمانها الحقيقة ، أى من خلال الاحتكار الذى ينتج من نقل الفائض بين مجتمع إلى مجتمع آخر، ولا يتحقق داخل المجتمع نفسه - قد تتحقق الفائدة فى المجتمعات الرأسمالية عن أساليب أخرى مثل الودائع المصرفية ـ .
أما الربح فلا يتحقق إلا فى المجتمع الرأسمالى أى عن طريق توزيع الفائض على عناصر الإنتاج المتولدة داخل المجتمع ، وهو يتطلب سوق عمل حرة ، وعمل مأجور ، ووسائل إنتاج تكونت من خلال استثمارات العمل الاجتماعى المنتج .
ويعرض د . محمد دويدار تطور مفهوم الريع ، والذى كان فى الأصل الدخل الذى يحصل عليه مالك الأرض ، ولكنه ظل محلا للنقاش عند المفكرين المختلفين ، ففى فترة التحول الرأسمالى نظر أليه ويليام بتى باعتباره : الفائض المتحقق فى الإنتاج الزراعى ، حيث يتوزع الناتج الزراعى الصافى بين الأجور أى ما يحصل عليه العمال ، والريع أى ما يحصل عليه مالك الأرض ، وذكر أن هناك ما يسمى بالريع الفرقى الذى يعود إلى اختلاف الأرض فى الخصوبة أو الاختلاف حول موقعها من السوق قربا وبعدا .
أما ديفد ريكاردو فيرى أنه : الجزء من ناتج الأرض الذى يدفع لمالكها لكى يكون لنا الحق فى استغلال القدرات المنتجة الأصلية للتربة ، وهى قدرات غير قابلة للفناء ، كما ميز بين الريع المطلق والريع الفرقى .

أما ماركس فيرى الريع فى علاقته المباشرة بالملكية الخاصة للتربة من خلال احتكار طبقة اجتماعية معينة للأرض ، ويعرف الريع بأنه : الجزء من فائض القيمة الذى يحصل عليه مالك الأرض ، ولكنه دخل غير مكتسب ، فمالك الأرض لا يسهم فى عملية العمل الاجتماعى ولا يبيع قوة عمله ، وهو يحصل على الريع بوصفه المالك القانونى للأرض التى تستخدم فى إطار الإنتاج الرأسمالى استخداما ينتج عنه فائض قيمة .
وأيا كانت نظرة هؤلاء المفكرين للريع فأنهم يجمعون حول إدانة طبقة ملاك الأراضى ، حيث أنها طبقة غير منتجة ، وأن مصالحها تتناقض مع مصالح الطبقات التى تعمل على تطوير قوى الإنتاج ، الطبقة العاملة التى تخلق القيمة ، وطبقة الرأسماليين التى تراكم رأس المال ، وتكون إدانة طبقة ملاك الأراضى حيث يصبح الريع رمزا للدخل الذى تحصل عليه هذه الطبقة التى تقف فى وجه التطور وتحاول الحفاظ على الوضع القائم بل وتسعى إلى إدارة العجلة إلى الوراء .
وفى وقت أزمة الاقتصاد الرأسمالى يستعير جون كينز فكرة الطبيعة الريعية ليسحبها على جزء من رأس المال الذى لا يستخدمه صاحبه فى زيادة الطاقة الإنتاجية فى المجتمع ، وإنما بالمضاربة فى امتلاك وسائل الإنتاج لندرة رأس المال ، وهكذا فأن كينز ينبهنا إلى أنه جاء دور رأس المال ، لا الملكية العقارية وحدها ، لأن يصبح تاريخيا ذى طبيعة ريعية.
ومع تبلور الاتجاه الفكرى العلمى الذى يدين الريع وسعت المدرسة النيوكلاسيكية مفهوم الريع بحيث أصبح لا ينتمى إلى المجال الزراعى فقط ، بل هناك انواع من الريع تدفع لكل عناصر الإنتاج إذا ما كان عرضها منعدم المرونة ،

وبذلك وسع الفكر العلمى الطبيعة الريعية لكل طبقة اجتماعية تحصل على دخول من خلال سيطرتها على قوى الطبيعة دون أن تنشغل بتطوير القوى الإنتاجية للمجتمع وإنما تعمل على تشتيت عصب تلك القوى الإنتاجية أى القوى العاملة ، ومن ثم تبديد ما لدى المجتمع من طاقة مادية فى الصناعة والزراعة ، وتصدير هذه القوة العاملة ، وضم ما يحلبه عرقها من عملات أجنبية إلى دخولها الريعية الأخرى .
ويكاد تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003 أن يتفق مع ما سبق حول تعريف الريع :

بأن فى الأصل عائد على استغلال أرض أو مبنى ، ولكنه يضيف إلى أنه عندما يكون العائد ناتجا عن الخصائص الطبيعية للأرض أو موقعها ، يكون الريع فائضا صافيا يعود للمالك الذى لم يبذل جهدا أو يقدم عامل إنتاج يسهم فى خلق هذا العائد ،
من هذا المدخل فأن التقرير يرى أن أنماط الإنتاج فى الدول العربية تتسم باعتمادها الرئيسى على استنضاب المواد الخام ، وهو ما يسمى بنمط اقتصاد الريع .
وعلى رأس هذه المواد الخام يأتى استخراج النفط ،

الذى يكاد يكون كاملا فى دول مجلس التعاون الخليجى وليبيا والعراق والجزائر،
بينما تعتمد بلدان عربية آخرى على النفط كمصدر رئيسى ، وان لم يكن وحيدا ، مثل مصر وسوريا واليمن والسودان ،
كما يظهر اعتماد البلدان العربية التى لا تنتج النفط على نطاق واسع ، عبر تحويلات مواطنيها العاملين فى البلدان النفطية ، والمعونات التى تمنحها البلدان النفطية لها ، ويزيد مصدر الدخل الريعى لمثل هذه البلدان من خلال معونات الدول المتقدمة لها .
والعائد الاقتصادى فى نمط اقتصاد الريع لا يرتبط بالضرورة بالعمل والاجتهاد ، كما أن نشأة هذا النمط ارتبطت تاريخيا بدور الخبرة الأجنبية فى اكتشاف واستغلا هذه الثروات الطبيعية ،

إضافة إلى تهافت منظومة المعرفة وضعف شروط تحقيقها فى مثل هذه البلدان ، من هنا فأن هذا النمط يحفز استقدام الخبرة ، بل وكل أصناف العمالة من الخارج خاصة وأنها تعتبر بلدان غير كثيفة السكان ، لسهولة ضبط وتوظيف هذه العمالة .
وتجدر الإشارة إلى أن جميع البلدان العربية تقريبا قد أوكلت جل الجوانب كثيفة المعرفة ، خاصة فى اكتشاف واستغلال الثروات الطبيعية كالنفط والغاز الطبيعى ، وربما فى غيرها من اوجه النشاط الاقتصادى ، إلى شركات أجنبية ، جرى ذلك فى الأغلب بأسلوب التعاقد الكامل ، أو تسليم المفتاح ، ولا يقتصر مغبة هذا السلوك على ارتفاع التكلفة المالية والاجتماعية نتيجة الاعتماد على الخبرة الأجنبية ، التى لا ترتبط بالمصلحة الوطنية ، كما يؤدى الاعتماد عليها إلى قلة الطلب على المعرفة محليا ، وإجهاض فرص نشأة واشتداد عود مؤسسات عربية يمكنها أن تدخل هذا المضمار وتثبيت جدارتها فيه ، مما ينتهى إلى أضعاف الطلب المحلى على المعرفة ويهدر فرص انتاجها ، حيث لا يمثل حاجة ضرورية لمثل هذه المجتمعات ، كما أنها تحتاج كثيرا من الجهد والوقت والمال.
وفى إطار مؤتمر الإصلاح العربى الثالث مارس 2006 صدر كتاب عن مرصد الإصلاح العربى .

قدم فيه د. محمد السعيد إدريس دراسة عن الإصلاح السياسى المفهوم ـ المرتكزات ـ المؤشرات ، من خلال مدخل الخصوصية العربية .
وهو فى سبيل ذلك يبدأ بطرح المعوقات والتحديات التى تواجه الإصلاح السياسى ، ويعتبر كثرة الحديث عن الخصوصية العربية مجرد مبرر للعزوف عن التحول الديمقراطى والليبرالى ،

ورغم اعترافه بأن الدول العربية تعيش مجموعة من الاختلافات تتعلق بطبيعة السلطة ونظم الحكم ، ومن ابرز هذه الاختلافات ، الاختلاف فى نوعية منظومة القيم السائدة ، ونمط العلاقات الاجتماعية ، ومستوى الثروة ونوعيتها ، وكيفية توزيع الدخل ، وعدد وتركيبة السكان ، وكذلك اختلاف القوة الدافعة لعملية التحول الديمقراطى ،
إلا أنه يركز تحليله لواقع النظم فى منطقة الخليج دون أن يوسع من دائرة اهتمامه خارج نطاق هذه المنطقة ، ومدى علاقات التأثير والتأثر بينها وبين بقية البلدان العربية .
ويستند محمد السعيد إلى تصنيف " جياكومو لوتشيانى " للدول العربية من منظور اقتصادى ورهاناته السياسية ، والذى ميز فيه بين دول توزيعية ، ودول إنتاجية ،

تتميز الدول التوزيعية بأن مواردها الأساسية تأتى من الخارج ، وأن نفقاتها تمثل نسبة مهمة من ناتجها القومى ، وتركز على توزيع مواردها وإن كان بشكل غير عادل ،
فى المقابل فإن الدول الإنتاجية يمثل نشاطها الاقتصادى الداخلى المصدر الرئيسى للثروات ، ولا يمثل التوزيع وظيفة جوهرية فى نشاطها ، وتعبئة الولاءات بها يتم عبر الترويج لأسطورة الوطنية .
وهكذا يعتبر نظم الحكم فى الدول الخليجية نموذجا لما تمثله الخصوصية من تحديات لعملية الإصلاح السياسى وفق النموذج الغربى ،

وأن ذلك يعود لمجموعة من الأسباب هى
· إذا كان الإسلام هو دين أبناء الدول الست ، فهو أيضا أقدم قوة موحدة بين هذه الدول ، كما أنه مصدر الشرعية للنظم السياسية القائمة .
· دول مجلس التعاون الخليجى لا تربطها روابط الدين والعرق واللغة والثقافة والتاريخ والجوار ، بل ترتبط قبليا ، وتستند أنظمة الحكم فيها إلى تحالفات تقليدية قبلية .
· تتسم هذه الأنظمة بأنها تعيش فى حالة انتقالية ، تمر عبر سلسلة من عمليات التحول ، المتسارع فى المجال الاقتصادى ، وشديد البطء فى المجال السياسى ،

نتيجة لمجموعة من العوامل تتعلق بظاهرة السلطة السياسية ، التى اكتسبت خصوصيتها من ثلاث مرتكزات أساسية هى : القبلية ، والميراثية ، والريعية .

أ – القبلية السياسية
فأنظمة الحكم فى دول الخليج العربى تستند الى تحالفات تقليدية قبلية ، يعتمد حضورها على قربها أو بعدها عن الأسر الحاكمة ، والشرعية لا ترتبط بشخصية الحاكم إنما ترتبط أساسا بالقبيلة ، وتسير هذه الحالة جنبا الى جنب مع مظاهر التحديث للبنى التحتية ، وبمقارنة التطور الاقتصادى المتسارع ، نجد بطء شديد فى المجال السياسى ، حيث لا يشعر الأفراد بالموطنة بل كأعضاء فى تحالفات قبلية واسعة يظهر فيها الولاء للشيخ المترئس مقابل حصولهم على نصيب من الغنائم ، وينظر الى هذه الحالة على أنها لا تعدو أن تكون سلسلة من أعمال النهب والإغارة ، وأن التحولات السياسية ليست إلا نجاح تحالف فى الإطاحة بتحالف آخر ، لتبدأ عملية جديدة من عمليات النهب وتقسيم الغنائم .

ب – الميراثية
وتتمتع نظم الحكم بقدر عالى من الديمومة والاستمرارية الناتج عن ميراثية الحكم ، وهذا الترابط بين حكم القبيلة وقاعدة توريث السلطة جعل الحكم يتحول الى مؤسسة عائلية ، وأداتها فى ذلك الدولة التسلطية ، التى تحتكر السلطة والثروة عن طريق اختزال المجتمع المدنى ،
ويتسم نظامها السياسى بالسمات التالية :
• عدم وجود حكومات ممثلة لمصالح السكان .
• الدساتير ملغاة أو معلقة
أو مؤقتة أو غير معمول بها .
• عدم وجود تنظيمات مستقلة عن الدولة كالأحزاب ، والنقابات ، والمنظمات المهنية أو الأهلية .
• لا وجود لانتخابات ، أو حقوق مدنية .
• نسبة عالية من الإنفاق يستأثر بها الجيش وأجهزة القمع ، والتى تستخدم فقط لأغراض الأمن الداخلى .

ج – الريعية
وفى ظل التطورات الهائلة بتحول دول مجلس التعاون الخليجى الى مجتمعات منتجة ومصدرة للنفط والغاز بكميات كبيرة ، ومن ثم تحولت الى دول ريعية أثرت فى نظم الحكم وفى العلاقة بين الدولة والمجتمع ، فهى دول لا تفرض الضرائب والمكوس على الأفراد ، بل على العكس من كل دول العالم تدفع لهم ،

والأفراد هنا لا يرون أهمية للفوارق فى توزيع الثروة ، ولا تمثل هذه الفوارق حافزا كافيا لمحاولة تغيير النظم السياسية ، يكمن الحل بالنسبة الى الفرد الذى يشعر بالغبن فى المناورة لحيازة منافع أكبر ، وليس فى التعاون مع آخرين يعيشون حالته لأجل التغيير ،
وينحط الحراك السياسى ولا يتطور الى حوار سياسى حقيقى ، والنتيجة أنه مع عدم وجود ضرائب فان الأفراد يكنون أقل إلحاحا نحو المشاركة السياسية ، فتاريخ الديمقراطية ترتبط بدايته بنوع من الارتباط المالى ( لا ضرائب بدون تمثيل سياسى ) .
هذه المرتكزات الثلاثة من القبلية ، والميراثية ، والريعية ، أنتجت فى النهاية سلطة سياسية تتمتع باستقلالية لا مثيل لها .

أولا - الاستقلال اقتصادى
ويتمثل فى أن العلاقة بين الدولة وأفرادها تم اختزالها الى مجرد أسر حاكمة تحتكر السلطة مقابل عقد اجتماعى تقوم بمقتضاه بضمان الوظائف والخدمات الاجتماعية ،وأفراد تستقبل هذه الخدمات لا كحقوق مواطنة ، بل كهبات تقوم مقابلها بالصمت عن إطلاق يد الحاكم ليتصرف على هواه ،

وساهم العامل الثقافى فى تعزيز العقلية الريعية التى تكسر الارتباط بين العمل والمكافأة ، إذ تصبح المكافأة كسبا وليس ثمرة عمل منتج ، وهذه الحالة تخلق نوعا من الخضوع لدى الأفراد لسلطة الدولة ، مما يضعف حالة الانتماء لمعنى الوطن والمواطنة ، ويزيد من سيطرة الدولة على حساب حريات الأفراد الذين يعتمدون عليها بالرغم من أنها قد تكون أكثر استغلالا لهم ، وربما أكثر استغناء عنهم .

ثانيا - الاستقلال عن العمالة المحلية
فقوة العمل الأساسية يتم استيرادها كسلعة من الخارج للاستخدام لفترة محددة دون أى حقوق سياسية ، وبأقل أجور ، وهى معرضة للترحيل حينما تنتفى الحاجة اليها ، وهذه الوضعية تمكن هذه الدول من الانتفاع بقوة عمل ماهرة دون التعامل معها كجزء من المجتمع ، بالمقابل فان هذه الأعداد من قوة العمل الوافدة تهمش المجتمع المحلى سياسيا أمام نظام حكمه وذلك عبر إزاحتة عن مواقع الإنتاج التى يمكن أن ينشب حولها صراع اجتماعى أو سياسى .

ثالثا - الاستقلال الأمنى والعسكرى
فعلى عكس العلاقات الطبيعية فى كل المجتمعات التى تجعل من مواطنيها أساسا لتوفير الحماية الوطنية ، فان خصوصية دول الخليج النفطية أدت الى ان يصبح توفير الأمن الذى هو فى الأساس أمن النظام الحاكم على عاتق الدول الكبرى المستوردة للنفط خاصة الولايات المتحدة الأمريكية للدفاع عن مصالحها ،

كما أن امتلاك هذه الدول لقدرات مالية ضخمة ، وافتقارها الى القدرات البشرية يجعلها قادرة على شراء مستلزمات الأمن وتوظيف الخبرات الأجنبية فى القواعد العسكرية الكبيرة والمتطورة ، ومن ثم فان الاعتماد على أفرادها فى تحقيق الأمن يصبح أمرا قليل الأهمية ،
ومن الواضح أن الحاكم الذى لا يستمد وضعه وشرعية حكمه من الرضا الداخلى ، يعيش علاقة فريدة مع شعبه ،
والأدبيات السياسة تجمع على أنه من التعذر أن يستمر حاكم دون دعم داخلى من طبقة اجتماعية أو طائفة تسند حكمه ، يقابل ذلك قيام الحاكم بأداء واجبه تجاهها ،
وهذا التوازن غالبا ما ينهار حينما تأتى قوى خارجية لتضمن للحاكم وجوده رغم انف مجتمعه .
أن هذه الدول البالغة الاستقلال تظهر قوية جدا أمام شعبها ، وليست فى حاجة الى نيل الشرعية ، وغير قابلة للمحاسبة ، لهذا فان المشكلة التى تواجه اغلب الدول الحديثة وهى مكابدة أزمة الشرعية تصبح لا وجود لها ،

ورغم توافر كل الشروط لوجود أزمة فى دول الخليج إلا أن ذلك لا يظهر على السطح ، والسبب فى ذلك أن السلطة الخليجية لا تملك شعبا ، كما أن الشعب الخليجى لا يملك سلطة ،
لهذا فان ظاهرة الإقصاء السياسى تقدم توضيحا لما تمثله خصوصية دول الخليج من عوائق وتحديات لعملية الإصلاح السياسى ،
وتفسر حالة الاستعصاء الديمقراطى فى العالم العربى ،
كما تجسد بوضوح شديد حالة استعصاء التداول السلمى للسلطة .
هذه السمات والمرتكزات ربما تكون متحققة بشكل نموذجى فى دول الخليج العربى ، وإلى حد ما فى باقى الدول النفطية ،

و مصر على سبيل المثال قد لا يوجد بها تحالفات قبلية ، ولكن ميراثية الحكم كانت موجودة طوال فترة أسرة محمد على ، وإذا كانت سلطة يوليو قد أنهت ذلك من حيث الشكل إلا أنها أبقت عليه من حيث الجوهر، من خلال توارث العسكريين لسلطة الحكم ،
كما أن صيغة التوارث أخذت تطل برأسها من حيث الجوهر والشكل من خلال المحاولات الجارية لتوريث الأبن سلطة الحكم مكان الأب ،
كما أن النمط الريعى فى الإنتاج موجود بدرجة واضحة ، فالاقتصاد المصرى يعتمد بشكل رئيسى على تصدير البترول والغاز الطبيعى ، وأيرادات قناة السويس والنشاط السياحى ، وتحويلات العاملين فى الخارج ، وما تحصل عليه مصر من منح وإعانات ، كل ذلك يمثل النسبة الغالبة من الدخل القومى ،
وهكذا فأن النمط الريعى يكاد أن يكون متحقق بدرجة عالية فى مصر ، هذا بالإضافة إلى درجة التأثير والتأثر بين البلدان العربية وسطوة النمط السائد فى المنطقة من خلال تعاظم القوة الاقتصادية لدول الخليج فى العقود الماضية ،
إضافة إلى سطوتها الثقافية والتراثية من خلال اعتبارها موطن الدين الإسلامى الذى يشكل الإطار الايديولوجى لتبرير هذا النمط من الاقتصاد.
ولكن تبقى مصر بصفتها دولة محورية فى المنطقة

باعتبارها أكثر البلدان العربية تقدما لامتلاكها قاعدة صناعية كبيرة ، وأكثر البلدان العربية تحضرا من الناحية الاجتماعية ،
إضافة إلى ثقلها السكانى وامتلاكها قوة بشرية أكثر تأهيلا ، ل
ذلك فأنها تعتبر الأكثر تطورا على المستوى السياسى وتشهد فعلا درجة من الحراك الاجتماعى والسياسى ،
لكل ذلك فأنها مؤهلة أكثر من غيرها لتخطى الموقف الراهن من خلال الدخول فى نسق الاقتصاد الرأسمالى المنتج ،
وذلك بتخلى الدولة عن أى دور إنتاجى ، وترك المجال للقطاع الخاص فى تملك كل وسائل الإنتاج ، كى يتمكن من تشكيل كيانات وطبقات اجتماعية لها مصالح حقيقة فى إدارة صراع سياسى ،وهذا أمر يحتاج لجهود كبيرة ،
ونقطة البداية هى إدارة حوار ثقافى وسياسى لمناقشة دور الاقتصاد الريعى فى استمرار التخلف ،
وربما يجر هذا الأمر عديد من الدول العربية الأخرى بحكم دور مصر الريادى فى التطور الحضارى للمنطقة .
أن تشكيل اقتصاد رأسمالى منتج هو المدخل الوحيد للتخلص من حالة التردى الحضارى ، والجمود السياسى ، والانحطاط الثقافى الذى سوف يظل مستمرا ويعاد إنتاجه فى ظل استمرار نمط الاقتصاد الريعى ،

هذه مجرد رؤية أولية مطروحة للنقاش لا تشكل اطروحة كاملة أو مدخلا للتغير إلا من خلال مشاركة كبير فى الحوار حولها .



الاقتصاد الريعي يتعارض مع مقومات الديمقراطية

الباحث عبدالله جناحي


بيروت - رويترز

يرى باحث بحريني ان عقلية الاقتصاد الريعي بسماته القيمية والثقافية تتعارض مع مقومات الدولة الديمقراطية وان هذا ينطبق على دول خليجية عربية.
وشدد الباحث على الآثار الاجتماعية والوطنية السلبية في تلك البلدان لما يعرف باقتصاد دولة الريع اذ يقدم نصيب من الناتج لاناس ليس لهم فضل في تحقيقه وذلك يؤدي إلى الاضرار بالنظام الانتاجي القائم على الجهد وتحمل المخاطر. ورأى الباحث الاقتصادي عبدالله جناحي ان من المتفق عليه لدى «معظم الاقتصاديين» خصوصا جماعة الاقتصاد السياسي ان «هناك علاقة طردية واضحة بين نجاح التنمية الاقتصادية المستدامة وحتى النمو الاقتصادي وبين المتطلبات السياسية الديمقراطية في المجتمع».
والاتجاه الذي اخذ يسود هو تبني سياسات وبرامج اقتصادية اجتماعية سياسية تؤكد التنمية البشرية المستدامة.
هذه البرامج قوامها تمكين فئات المجتمع والتسليم بحقوقهم المختلفة السياسية والحقوقية والديمقراطية والنقابية والاقتصادية والصحية والبيئية وغيرها.
وقد جاء ذلك في دراسة لجناحي عن العقلية الريعية نشرت في العدد الاخير من مجلة (المستقبل العربي الشهرية) التي تصدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت.
واختصر جناحي اراء عدد من كبار الباحثين في مجالات الدراسات الاقتصادية والاجتماعية ليقول

ان دراسته لا تركز على الريع بالمعنى الاقتصادي باعتباره ثمنا لاحد عناصر الانتاج
«وانما ينصب الجهد على الوظيفة او السلوك الاجتماعي لفئة تحصل على نصيب من الناتج من دون ان يكون لها اسهام في تحقيق هذا الناتج
وهو ما اسميناه بالسمات القيمية والثقافية للاقتصاد الريعي».

وأضاف ان هذه السمات تركز في دراسته على الاقتصاد الريعي الذي تغلب عليه «عناصر الريع الخارجي وليس الريع الناتج عن الجهد المبذول في تحويل المورد الطبيعي الداخلي إلى سلعة ما.
ذلك ان الريع الداخلي يستند بالضرورة إلى قطاعات انتاجية داخلية او محلية بحيث تتشارك العناصر الريعية في الاستيلاء على نسبة او جزء من هذا الناتج المحلي».

وتحدث عن سمات الاقتصاد الريعي

واولها كما قال هي
ان الدول التي تعتمد على الريع الخارجي في معظم نتاجها القومي هي من الدول التي تسمى ريعية
«وفيها يؤول الريع الخارجي او نسبة عالية منه إلى فئة صغيرة او محدودة... وهذا من شانه ان يولد نشاطا اقتصاديا تابعا يعتمد اعتمادا كبيرا على المصدر الاساسي للثروة.
ويقابل ذلك انفصام في العلاقة بين تيار العائدات النفطية التي تؤول للدولة وبين الجهد الانتاجي للمجتمع ككل
وخصوصا ان اسعار الصادرات النفطية كما تتحدد في السوق العالمي تعتبر منفصلة تماما عن اسعار الانتاج المحلي للنفط.

وميز هنا بين الدولة الريعية ومنها دول نفطية وبين الاقتصاد الريعي الآخر الذي يشارك فيه عدد كبير من المواطنين.
والسمة الاخرى التي تنتج عن السمة الاولى هي ان الدور المتميز للقلة يؤدي في معظم الاحيان إلى ان تصبح الدولة او الحكومة هي المستفيد المباشر من هذا الريع الخارجي «فتركيز القوة الاقتصادية في يد عدد محدود لا يلبث ان يؤدي الى تركيز القوة السياسة في يدها في الوقت نفسه».

اما السمة الثالثة
«التي تمثل الافراز القيمي» للسمتين السابقتين هي تأسيس العقلية الريعية «واخطر ما يميز هذه العقلية هو نظرتها الخاصة للعائد وخصوصا انفصاله عن الجهد او تحمل المخاطر.
فالعائد لا يعدو ان يكون رزقا او حظا او صدقة وليس جزءا من نظام انتاجي». ومن هنا يقول مستشهدا بباحثين آخرين يظهر التعارض بين العقلية الريعية والعقلية الانتاجية التي ترى ان العائد او المكسب هو نتيجة لعمل انساني منظم ينتج عن الجهد او تحمل المخاطر.
ورأى ان الدول الخليجية النفطية هي «افضل تجسيد لفكرة الدولة الريعية فهذه الدول تعتمد في اقتصادها على تصدير سلعة خام (النفط) ويستند اقتصادها إلى نوع من الريع الخارجي المعتمد على توافر ظروف منجمية مناسبة وطلب خارجي هائل وتمثل عائدات النفط العنصر الغالب على النشاط الاقتصادي .

ونقل عن محمد الرميحي قوله في دراسة له
ان «المجتمع الاستهلاكي المعتمد على دخل النفط غير المرتبط دخله بالانتاج هو الذي يظهر لنا اكثر وضوحا كلما زادت المداخيل النفطية والدولة (العشيرة الحاكمة) هي مصدر رئيسي لتوزيع هذا الدخل فانعكس ذلك على صعيد العلاقات الاجتماعية والمؤسسات السياسية.
وأشار إلى ان من اهم مكونات ومقومات المجتمع الديمقراطي مبادىء المواطنة والمشاركة السياسية وحكم القانون
وان مبدأ المواطنة يمثل حجر الزاوية في بناء الدولة الحديثة.
وأضاف «بمقارنة سريعة بين السمات القيمية والثقافية والسياسية للاقتصاد الريعي تنجلي صعوبة الاقتناع بالتوافق والانسجام بينهما ما يؤدي إلى تطبيق مشوه او ناقص للمبادىء الاساسية للدولة الديمقراطية.
فعلى صعيد فكرة المواطنة هناك تعزيز للمواطن الذي يتم توزيع ثروة الريع عليه بدلا من تعزيز المواطنة المرتبطة بالقانون.
وهذا ما يؤدي الى التمييز بين المواطنين الاصليين والمتجنسين وبينهم وبين الوافدين.
وخلص الى القول
ان الخلاص هو
في «تحويل القبيلة بمفهومها الواسع الذي يشمل كل عصبة بنيوية إلى اللاقبيلة أي إلى تنظيم مدني سياسي اجتماعي...
وتحويل «الغنيمة» إلى اقتصاد انتاجي أي تحويل الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد انتاجي


صحيفة الوسط البحرينية
- العدد 161 - الجمعة 14 فبراير 2003م
الموافق 12 ذي الحجة 1423هـ

http://www.alwasatnews.com/161/news/read/196399/1.html



العقلية الريعية في الثقافة العربية

عبد الرحمن الوابلي


يحكي لنا التاريخ وبفخر، أن الخليفة العربي العباسي الفذ والشجاع والطاهر والسخي والمتدين، أمير المؤمنين، هارون الرشيد، الذي كان يحج عاماً ويغزو عاماً، ويصلي باليوم أكثر من مئة وستين ركعة لله سبحانه وتعالى، كان يوماً جالساً تحت شجرة، فعبرت من فوق رأسه سحابة، فقال يخاطبها، بفخر وعزة واثقة " أمطري يا سحابة أينما تمطرين، فسوف يأتيني خراجك." وأخذ العرب مقولته هذه ليثبتوا ويدللوا بها على عزة ملكهم وسعته وقوته وسطوته آنذاك.

هذا طبعاً بعد ما أفلسوا وأصبحوا لا يملكون أو يحكمون حتى بيوتهم. ولو كانوا يعقلون ما يقولون لما وصلت حالتهم إلى ما وصلت إليه، ولما افتخروا بمقولة هي بالأول والأخير سبب ما هم فيه من انحدار وإفلاس.
وذلك لكون اقتصاد الدولة يعتمد على دخل واحد وهو المطر. وهذا المصدر الوحيد، هو ريع، أي لا يعتمد لا على جهد عقلي أو حتى بدني لا من الناس ولا حتى من قبل الدولة نفسها. وهذا ما يسمى بالاقتصاد الريعي. والدولة التي مصدر دخلها ريع، يكون الناس فيها آخر مصب اهتماماتها. حيث هم إن لم يكونوا عبئا على دخلها، فهم لا يقدمون ولا يؤخرون لا في وفرته ولا في ندرته. إذاً فسكان الدولة الريعية هم رعية، مثلهم مثل باقي الرعايا فيها، هذا إن لم يكونوا أقل منها إنتاجية.
وعكس الاقتصاد الريعي هو الاقتصاد الإنتاجي. أي أن يكون مصدر دخل الدولة هو إنتاج الناس من سلع أو خدمات والذي يتخصصون فيه ويتميزون، ويسعون دوما لتطوير أنفسهم وأدواتهم وآلياتهم ومناخاتهم الحياتية والسياسية والتعليمية والثقافية، من أجل تحسين منتجهم، حتى يظل في المقدمة ولا ينافسهم عليه أحد. والدولة التي يعتمد دخلها على الاقتصاد الإنتاجي يكون سكانها ومصالحهم مصب اهتمامها. حيث هم سبب وجودها وقوتها وعزتها. ولذلك فهم مواطنون وهم مركز الاهتمام والرعاية وحفظ الحقوق من قبلها.
وخطورة المصدر الاقتصادي الريعي على الدولة والرعية ليست فقط إمكانية نفاد هذا المصدر في أي لحظة لسبب طبيعي أو آخر. وإنما تبعاته السلوكية والذهنية على الناس. حيث يتبعه وبالضرورة ما يسمى بعلم الثقافة "العقلية الريعية".
فالخليفة هارون الرشيد عندما شاهد السحابة، تأكد من أن خراجها سوف يأتي لخزينته، ثم يصرفه على من شاء ومتى شاء وأين شاء وكيفما شاء، ويحرم منه من شاء ومتى شاء وكيفما شاء. إذاً فهو وحده في الدولة كلها، المعطي والرازق والواهب والمانع كذلك. وهكذا اكتسب أمير المؤمنين لقب "ظل الله في أرضه" وعن جدارة.
ولذلك فقد ازدحم بلاط الخليفة وضج بجميع فئات وأنواع المجتمع، على مختلف تخصصاتهم وتوجهاتهم ومشاربهم، من فقهاء وعسكر وشعراء وفلاسفة ومؤرخين وحكماء ومهرجين ومنجمين وتجار ومغنين ومغنيات وحتى جوار وراقصات. كل منهم يسعى لهدف واحد، وهو الاستمتاع بمشاهدة نواجذ أمير المؤمنين البيضاء تلمع من فرط الضحك والسرور. لأن نتيجة لمعانها، حتماً سيتبعها لمعان دراهم الذهب والفضة التي ستدخل جيوبهم أو جيبه. وكلٌ طبعاً يتحاشى أن يشاهده مقطب الجبين، لأن ذلك يعني تحول حالته من مرتاد لبلاط أمير المؤمنين، وهذا بحد ذاته شرف لا يعلوه شرف وفرصة لا تضاهيها فرصة للثراء السريع الفاحش. وهو حصن منيع، لا يحتاج أحد منهم بعده لواسطة ولا شفيع، إلا متسول وضيع، يتحاشى التصدق عليه الكبير والرضيع. هذا إذا كان محظوظاً ولم يقطع رأسه بإشارة من رمش عين أمير المؤمنين يلتقطها بحس أمين سيافه حامل سيفه ذي النصل المتين.
وكل من في الدولة يسعى لرضاء أمير المؤمنين، وبنفس الوقت، يخشى غضبته من ولي عهده حتى أصغر راع فيها. لم لا وهو الوحيد القادر على تحويل الإنسان من حال إلى حال من دون حاجة لجواب أو سؤال. وذلك لكونه ليس بحاجة لخبرة أحد أو تميز أحد أو صدق أحد أو وفاء أحد، ما دام خراج السحاب يدر على خزائنه أينما أمطرت. فبالخراج وحده يستطيع أن يستبدل ويغير من يشاء. خاصة كون من لديهم استعداد لخدمته يقفون طوابير خلف بوابة ديوانه. وهكذا تزداد المؤامرات والدسائس في بلاطه وقصوره. ويشترك في نسجها وحياكتها حتى الخدم والجواري.
وهذا ما حدث بالضبط لعائلة البرامكة، الذين خدموا هارون الرشيد لخمس وعشرين سنة وأسلافه من قبله في إدارة الدولة. حيث قام بتصفيتهم عن بكرة أبيهم. وكانت تبريرات حكماء وفقهاء و مؤرخي بلاطه جاهزة لتبرير فعلته الشنيعة هذه. أي بعد ربع قرن من خدمته وهم متواجدون معه في بغداد ويوميا يحضرون بلاطه، ويناقشون معه دقائق وتفاصيل أمور الدولة، اكتشف وبإلهام من الله تعالى أنهم هم مصدر البذخ والتبذير والفسق والمجون وتشويه سمعته والتآمر عليه. لم لا وهم سلالة فارسية مجوسية همها التآمر على الإسلام والمسلمين.
ولذلك يزداد المنافقون نفاقاً والكذابون كذباً، والأثرياء ثراءً والدجالون دجلاً والأغبياء غباء والمهووسون بحب السلطة هوساً. ويصبحون هم نخبة المجتمع وقيادات الدولة. وتصبح مزاياهم وأخلاقياتهم هي الطاغية في ثقافة المجتمع، حيث يتم تلبيسها لباس الصلاح والعفة ويصبغ بعضها بصبغة دينية. وتنعدم أخلاقيات العمل وحب الإنتاج والاستقلالية. ويصبح مثلاً المنتج بيده، وضيعاً وحقيراً لا يزوج، ومناسبته مدعاة للمعرة والمضرة. والتسول واللصوصية والنفاق والكذب والغش في كسب الرزق، أفضل وأشرف بمراحل من العمل اليدوي. وتصبح ميزة الفرد المطلوبة هي عدم تميزه. إلا بإبراز ولائه وانتمائه العصبي أو العقائدي التقليدي.
ولا يكون هنالك مجال للتغيير أو التطوير في حسابات العقلية الريعية. وتتمسك بميزتها التقليدية الوحيدة وهي التقليد. ففي فهمها، لن ينفع الخلف أفضل مما انتفع به السلف. ومن شذ شذ بالنار. وترمي بالكفر والزندقة والردة كل من سولت له نفسه تغيير ما عليه وما خبرته الأمة من قبل. أو تجرأ على عرضه على العقل وطرحه للجدل أو النقاش.
ولا يمكن المراهنة على أي تغيير أو إصلاح سياسي أو قانوني أو ثقافي في المجتمع الريعي إلا بتحويل مصدر دخله الريعي الوحيد إلى إنتاجي ومتنوع. عندها تعلو قيمة وميزة الإنسان المنتج. والذي يصبح حينها مصدر دخل الدولة والعماد الرئيسي لعزتها ومنعتها ودوامها. ففي المجتمع الريعي لا يمكن اكتشاف الخلل والمرض بسهولة وجلاء. حيث الأموال التي تدر عليه كفيلة بالتغطية الآنية على كل عيوبه وتشوهاته. وكما يقول المثل الشعبي " الدراهم مراهم تداوي كل الجروح." ولكن عندما تنتهي أو تقل هذه الدراهم، سوف تنفجر الدمامل بصديدها وقيحها وعفنها وتنزف ألماً وكوارث تقضي على الأخضر واليابس.
لقد أثبتت لنا بعض البحوث التاريخية الحديثة أن هارون الرشيد لم يحج ولا مرة. وكذلك لم يغز حيث لم تسجل أي معركة مشهورة أو غير مشهورة في عهده الطويل. هكذا يكتب المجتمع الريعي تاريخه وهكذا تتقبله العقلية الريعية وتردده بِبَبَّغائية، يحسدها عليها أجود فصائل الببغاوات ترديداً في العالم.
وفي الختام من الواضح أن بلادنا تمر بحالة تحول نحو الاقتصاد الإنتاجي وفقا لسياسات التي يضخها علينا كل يوم خادم الحرمين الشريفين تارة بأنظمة معلنة وتارة بتصريح واضح منه، وتارة بتشجيع التعليم والجامعات.
والاقتصاد الريعي مهما بلغت ثرواته فهو لا يمكن أن يشبع كل مواطن، وإنما مبادرة الفرد وإنتاجه وبذله الجهد والعرق في ظل دولة مستقرة وعادلة هي التي ستوفر لكل إنسان نصيبه وفق جهده.
* كاتب سعودي

http://www.alwatan.com.sa/news/Write...o=2744&id=5114

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق