الأربعاء، 10 أغسطس 2011

نعمة النفط ونقمته

السودان: نعمة النفط ونقمته


من اشراقات ابن خلدون أنه قبل العصر الحديث كشف أن في الطبيعة قوانين مطردة وحاول اكتشاف مثلها في حركة المجتمعات مما جعله رائد علم السوسيولوجيا.
ومن القوانين الاجتماعية أن حصول الأفراد والمجتمعات على وفرة مالية يؤثر على سلوكهم تأثيرا ملحوظا. 
كما أن السلطة بلا رقابة مفسدة.
وهكذا فالمال والسلطة من وسائل الابتلاء التي يمتحن بها البشر.
«وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ»1.
حاول البعض حديثا البحث عن قوانين سلوكية مرتبطة بتوافر النفط.
أشهر هؤلاء عالم السوسيولوجيا مايكل روس. قال:
في البلدان التي تعتمد على النفط موردا ماديا رئيسيا ولا تحظى بنظام سياسي قائم على المساءلة والشفافية 
فإن التأثير الاقتصادي الأهم هو أن ارتفاع قيمة العملة الوطنية بسبب إيرادات النفط يؤدي لزيادة تكلفة الإنتاج في المجالات الزراعية والصناعية مما يجعلها غير قادرة على التنافس في الأسواق العالمية، وتوافر الأموال في أيدي الفئات المنتفعة بإيرادات النفط يدفعها إلى نهم في استهلاك السلع المستوردة.
والتأثير السياسي الأهم هو تمكين النظام الحاكم من تقوية أجهزة القهر وشراء الذمم فتزيد قدراته على الترغيب والترهيب.
في أكتوبر الماضي عقد مؤتمر في مدريد حضره لفيف من الساسة، وعلماء الاقتصاد، والخبراء، لدراسة العلاقة بين الموارد الطبيعية، وأهمها النفط، والنظم السياسية والاقتصادية واكتشاف روابط سببية حولها.
واستنتج أنه في حالة وجود إيرادات ريعية من مورد طبيعي كالنفط إذا كان النظام الاقتصادي راسخا ومتنوعا والنظام السياسي خاضعا للمساءلة والشفافية فسيوظف الريع المتدفق بصورة تجعله نعمة للبلاد والعباد. والعكس صحيح.
وقدمت دراسات من بلدان كثيرة لإثبات الحالتين.
وكان أهم نموذج للحالة الإيجابية 
ما قدمه كجيل ماقن رئيس وزراء النرويج السابق الذي أوضح
أن النرويجيين رأوا البترول سلعة ناضبة فقرروا وضع إيراداته في صندوق للأجيال القادمة، ولا يدخل في الميزانية الجارية إلا فوائد هذا الصندوق وقدرها 4% في السنة، وقد بلغ حجمه الآن 240 مليار دولار وساهم عائد فوائده في دعم الاستثمار في القطاعات المنتجة ودعم دولة الرعاية الاجتماعية التي قضت على الفقر وعممت الخدمات.

وفي المقابل قدمت دراسات عن بلدان أخرى مثل السودان.
وذكرت حقائق تؤكد تأثير البترول على السياسة الدولية.
فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر قررت الولايات المتحدة الأمريكية تبني التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط بحجة أن غياب الديمقراطية أحد مصادر الإرهاب.
ولكن بعد حين تبينت أن الديمقراطية ستأتي للسلطة بعناصر مستقلة الرأي وغير مأمونة على استمرار النظام السائد بين منتجي ومستهلكي البترول ولا على سلامة إسرائيل الضامن الأخير لأمن الشرق الأوسط في نظر أمريكا.

السودان والبترول:
اكتشف البترول في السودان في عام 1978 ولأسباب أمنية واقتصادية جمدت الشركة المكتشفة (شفرون) عملياتها في 1984. وفي 1985 وقعت انتفاضة رجب/أبريل التي فتحت الطريق لتحول ديمقراطي عبر انتخابات عامة حرة وضعت السلطة بيد حكومة منتخبة.

سياسة الحكومة المنتخبة النفطية:
> أخذ علم بالتجميد ومطالبة الشركة المستثمرة باستئناف العمل في ظرف عامين أو الانسحاب.
> السعي لإبرام صفقة مع السعودية أو ليبيا أو معهما لمد السودان بقرض بترولي عيني يرد مستقبلا برميلا ببرميل.
> العمل على تحقيق السلام في هذا الأثناء.
وفي يونيو 1989 وقع انقلاب اتخذ سياسات تخلى بموجبها عن مشروع السلام الذي كاد يثمر في نفس العام، والخالي من أية رعاية أجنبية ومن تقرير المصير للجنوب. سياسات بدا معها الأمل في تحقيق سلام متفاوض عليه بعيدا، مما دفع شفرون لتنفيذ وعدها بالانسحاب.
استطاع النظام الانقلابي جذب مستثمرين آخرين في بترول السودان: شركات عامة آسيوية وشركات غربية صغيرة، استطاعت مع ارتفاع أسعار البترول المصاحب لحرب الخليج الثانية (1991) واستعداد النظام الجديد لإتباع سياسة أمنية خشنة، الاستثمار في البترول السوداني فبدأ إنتاجه وتصديره في 1999.

كان للبترول السوداني آثارا هامة سياسية واقتصادية ودبلوماسية:
الآثار الاقتصادية:
> ارتفاع إيرادات الحكومة وتحول الميزان المالي الداخلي وميزان المدفوعات الخارجي لفوائض ووقف تدهور العملة الذي صحب النظام منذ نشأته حتى صار حجم الجنية السوداني 0.04 من السنت.
> تركز اهتمام الحكومة على البترول وخدماته وتقلص الاهتمام بالاستثمار في المجالات الأخرى فانكمش الإنتاج الزراعي والصناعي وتدهورت نسبة الصادرات غير النفطية حتى صارت 7% في عام 2005.
> قفز الإنفاق الحكومي قفزة كبيرة لا يبررها الصرف التنموي والخدمي بل ذهب الإنفاق لأولويات فرضتها طبيعة النظام.

الآثار السياسية:
> قفز الإنفاق العسكري والأمني بصورة عززت عسكرة البلاد بأعداد كبيرة من الفصائل المسلحة.
> بلغ الإنفاق الأمني درجة جعلت الأمن دولة داخل الدولة.
> صار الحزب الحاكم بموجب الإمكانات المالية التي وضعت في يده بورصة لشراء الولاء السياسي بصورة مكنته من اختراق الكيانات السياسية الأخرى.

الآثار الدبلوماسية:
> كانت سياسة الولايات المتحدة نحو النظام السوداني سياسة قطيعة واحتواء حتى 1999 حينما صدر تقرير مجلس الدراسات الإستراتيجية العالمية الذي جاء فيه أن البترول حسن فرص انتصار النظام السوداني في الحرب الأهلية وينبغي لذلك تحقيق تسوية سلمية للحرب الأهلية، واقترح أساسا ثنائيا للتسوية صار فيما بعد مرجعا لاتفاقية نيفاشا. البترول اشتري للنظام الشمولي السوداني عبر اتفاقية السلام وما تلاها عمرا جديدا تحرسه نسبة 52% من السلطة وتعطيه فيتو على كيفية تطبيق الاتفاقية وعلى وتيرة التحول الديمقراطي. فيتو استخدمه المؤتمر الوطني في جعل ما بعد اتفاقية السلام أشبه ما يكون بما قبلها.

سلبيات عامة:
> إيرادات النفط خلقت ذهنية ريعية وتحول الأمر من حديث حول فرص التنمية، والاستثمار، والخدمات، ونقل التكنولوجيا إلى المحاصصة في توزيع ريع مرصود. وعلى نمط اتفاقية نيفاشا صارت اتفاقيات السلام اللاحقة من الناحية الاقتصادية صفقات لتوزيع عطايا مالية غير مرتبطة ببرامج تنموية محددة. وحتى الخلاف الحدودي بين الشمال والجنوب تحول إلى هاجس بترولي كما صورته لجنة التحكيم الخاصة بمنطقة آبيي.
> التسيب المالي المصاحب لريع البترول دون آليات محاسبة حقيقية زاد من أسباب الفساد فصار السودان حسب تقرير الشفافية العالمية أحد أكثر عشرة بلدان فسادا في العالم في عام 2006.
> التكالب على حصص في إيراد البترول، وإعطاء أولوية في صرفه لغير الخدمات الاجتماعية، والتمكين الأمني، والإنفاق العسكري عبر قوات غير نظامية على نطاق واسع في دارفور مما أدى في النهاية لقرارات تجريم النظام وغيرها من العوامل، جعلت مركزا معنيا بدراسة جدوى الدول يصنف السودان ضمن عشر دول متردية إلى جانب الصومال، والعراق، وأفغانستان، والكنغو وهلم جرا.

هذه الحقائق تدل على أن نعمة البترول في السودان صارت نقمة لا يمكن الخروج منها إلا عبر برنامج اقتصادي قومي محرر من اشتباكات المحاصصة معني ببرمجة التنمية وإزالة آثار الحرب وآثار التهميش؛ في ظل نظام سياسي قائم على المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة حكم القانون. الركون لمحاصصات الريع والتطلع لأريحية المانحين لا يجدي.
إن دافعي الضرائب في الدول المانحة لن يدفعوا أموالهم لنظام سياسي لا يحظى بالمساءلة والشفافية، نظام تجبره رقصات المحاصصة على استنساخ ما فعلته نخب المؤتمر الوطني باقتصاد السودان في مجالاتها الجهوية.
1 ـ سورة الأنبياء الآية «35»
http://aawsat.com/leader.asp?section...&issueno=10222

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق